أخبر تعالى أنهم بذلك مصطفون بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : هو اجتباكم بالفناء في بقائه حين ينكشف أنوار شموس القدم لأهل العدم ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : أفنوا في الله حق الفناء بحيث لا ترون فناءكم في بقائه بل ترون وجوده بوجوده لا بوجودكم ؛ لأن هذه الاجتبائية الأزلية يقتضي لكم مشاهدته ، ومشاهدته يقتضي لكم فناءكم فيه ، ثم بيّن أن في هذا الطريق المبارك ، والدين الشريف لم يكن حرج ، وتكليف ما لا يطاق بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : إذا شاهدتم مشاهدة جمال سهل عليكم فناءكم في جلالي ؛ لأن من عاينني عشقني ، وطاب عيشه معي ، وسهل عليه بذل مهجته إليّ لأن هذا مقام العاشقين الرامقين المحبين مثل الخليل والحبيب والكليم (١).
ألا ترى كيف قال : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ملة أبيكم العشق والمحبة والخلة والاستسلام والانقياد ، وبذل الوجود بنعت السخاء والكرم يا أسباط خليلي رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم قبل وجودكم بنور النبوة بقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) سماكم منقادين ، وبين يدي عارفين بوحدانيتي ، وفيما ذكرنا من أوصافكم حبيبي شاهد عليكم عندي ، يعرف هذه الفضائل منكم ، وهو بلّغكم ونشر فضائلي عليكم.
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))
قوله تعالى : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأنكم تعرفونهم فيما هم فيه وأن رسلهم قد بلغهم رسالاتي التي سبب نجاتهم ، ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا لنعمته وحمدا لأفضاله أي : اطلبوني في مقام مناجاتكم في الصلاة ، وادخلوا بهمتكم فيها ؛ فإنها
__________________
(١) تلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فليحطط رجله بساحات العبادة فإذا عدم اللطائف في سرائره فليستدم الوظائف على ظاهره ، وإذا لم يتحقّق بأحكام الحقيقة فليتخلق باداب الشريعة ، وإن لم يتحرج عن تركه الفضيلة فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة. تفسير القشيري (٢ / ٨٩).