اليقين ؛ فشاهدوا في مقام عين اليقين ، وارتفع عن قلوبهم كل شكّ ، وريب ثم نقلهم من تلك المقامات كلها إلى منازل الخوف ، فنازلوا الإشفاق والحذر والخشية ، فوجلت قلوبهم من تلوين الأحوال عليهم ، وهم من خشية ربهم مشفقون.
وقال النهر جوري : هم القائمون مع الله من حيث قام لهم ، ومن حيث يرون قيام الله لهم ؛ فهم في أحوالهم مشفقون.
وفي قوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أن الله سبحانه خلق النفوس الروحانية من عالم الملكوت ، وهي صدرت من فيض لطف صفاته ؛ فهي تحمل أمانات معرفة ربوبيته ، وهي تطيق حمل ما رد تجلي الذات والصفات إذ هي محمولة بمطايا أنوار العناية والكفاية ، وخلق النفوس الإنسانية من عالم أنوار الفعل ، وهي صدرت من تواثير سلطان قهر القدم ، وهي مجبولة لحمل أثقال العبودية إذ هي محمولة بمطية ذلك القهر ؛ فكانت النفوس مطايا حمل الربوبية والعبودية ، وهي تسعها به لا بها.
لذلك قال عليهالسلام حاكيا عن الله تعالى : «لم يسعني السماوات والأرض ويسعني قلب عبدي المؤمن» (١) ؛ فإذا جاءت بنعت الإشفاق إلى مشاهدة الذات والصفات ، وبنعت العجز عن مقابلة الجبروت ، وعجزها عن حمل عزة الملكوت ، خرست عن الأعذار يعتذر صانعها بنطق أزلي بأنها صادرة من الحدثان غير مخلوقة لحمل أصل القدم ، قال تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يشهد لها لا عليها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)) بأن القدم بوصف القدم يكون حملها بل يكون حملها على قدر وسعها.
قال الجريري : لم يكلف الله العباد بمعرفته على قدره ، وإنما كلفهم على أقدارهم ، فقال : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، ولو كلفهم على قدره ومقداره لجهلوه وما عرفوه ؛ لأنه لا يعرف قدره أحد سواه ، ولا يعرفه على الحقيقة سواه ، وإنما ألقي إلى الخلق منها اسما ورسما إكراما منه لهم بذلك ، وأما المعرفة ؛ فإنها التحير والتّيهوية.
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ
__________________
(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (٢ / ٤٩٦) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٥٥).