ثم يفنيهم بقهر سلطان غيرته ، ومرجعهم إلى معدن الأول ، ثم يعيدهم رحمة وشفقة ليجازي العارفين بكشف جماله بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) : أي : يجزي الذين شاهدوا بقلوبهم مشاهد الملكوت بكشف جمال الجبروت ، ويجازي الذين أصلحوا سرائرهم لنزول أنواره يجازيهم بمداناة وصاله.
يا أخي من رجع من سفر البعاد إلى قرب محبوبه يفرح المحبوب بمقدمه ، ويعطي نفسه لمريده وزائره ؛ فإنه سبحانه يكشف نقاب الغيرة عن جمال مشاهدته لكل أواب إليه.
أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا |
|
أيا ذاك لا أنساك ما هبّت الصّبا |
قال الجنيد : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : منه الابتداء وإليه الانتهاء ، وما بين ذلك مراتع فضله وتواتر نعمه ، فمن سبق له في الابتداء سعادة أظهر عليه في مراتعه وثقلته في نعمه بإظهار لسان الشكر وحال الرضا ومشاهدة المنعم ، ومن لم يجر له سعادة الابتداء أبطل أيامه في سياسة نفسه ، وجمع الحطام الفانية ليرده إلى ما سبق له في الابتداء من الشقاوة.
قال الله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : فالراجع بالحقيقة إليه هو الراجع مما سواه إليه ، فيكون متحققا في الرجوع إليه.
قال الأستاذ : الرجوع يقتضي ابتداء الأرواح قبل حصولها في الأشباح كان لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبيه وذويه.
ويقال : المطيع إذا رجع إلى ربه فله الحسنى والثواب والزلفى ، والعاصي إذا رجع إلى ربه بنعت الإخلاص وخسران الطريق فيلقى لباس الغفران ، وحلة الصفح والأمان ورحمة مولاه خير له من نسكه وتقواه.
قال تعالى : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) : فموعود المطيع الفراديس الأعلى ، وموعود العاصي الرحمة والرضا والجنة لطف الحق ، والرحمة وصف الحق ، فاللطف فعل لم يكن ثم حصل ، والوصل نعت لم يزل.
وقال الأستاذ في قوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : من كان له في جميع عمره نفس على وصف ما ابتدأ الحق به ففي الإشارة يكون له إعادة.
ولقد أنشد قائلهم :
كلّ نهر فيه ماء قد جرى |
|
فإليه الماء يوما سيعود |
ثم وصف الله تعالى نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة القائمة بتنوير العالم بنوره.