أول رغبة السالك مثل الماء الذي وصل إلى البذر في الأرض عند شروعه في المجاهدات والرياضات ؛ لقوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) ، فكثرت عليه الأعمال الوافرة المتنوعة من تصفية القلب (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) ، ورياضة النفس مما يأكل الأنعام ، فتمكن في العبادات وصفاء الأوقات ، وفرح بما تسهل إليه من شمائل ألطافه ، (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) : بهجة العبادات وزينة الطاعات ، وظنّ أنها تجري بمراده إلى المال ، (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) فيخرج عليه عساكر القهريات من مكمن الافات مع مفاداته ، والعجب والرياء منه ، (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) ، فلما تعجب بنفسه ورأى أعماله تجيء عليه النفس والشيطان ويغريانه بالعجب والرياء والسمعة ، فجاء قهر الله بفصاحته من عند ليالي قبائحه أو نهار طاعاته ، فجعلها هباء منثورا كقوله : (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) ، وهذا المثل لا يعرفه إلا من له نظر الاعتبار ونور الاستبصار ؛ لقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، نعوذ بالله من قهر الله ، ما أطيب زمان الإرادة والرقة والصفاء ، يا ليت لو يبقى المريد في شأنه ، لكن يغرقه قهر الغيرة في بحر الوساوس والمخائيل والرياء والسمعة حتى لا يجد من زمان الصفاء في قلبه ذرة :
فقدناه لّما تمّ واعتمّ بالعلا كذاك |
|
خسوف البدر عند تمامه |
ويقال : كما أن الربيع تتورد أشجاره ، وتظهر أزهاره ، وتخضر رباعه ، وتتزين بالنبات ألوانه وطلاعه ، ثم لا يؤمن أن تصيبه آفة من غير ارتقاب ، وينقلب الحال بما لم يكن في حساب كذلك من الناس من يكون أحواله صافية وأعماله بشرط الجلوس زاكية ، وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة ، ثم تصيبه عين فيذبل عود وصاله ، وينسد أبواب عقائد إقباله كما قيل :
عين أصابتك إنّ العين صائبة |
|
والعين تسرع أحيانا إلى الحسن |
قال رجل لأبي محمد الجريري ـ رحمة الله عليه : كنت على بساط الأنس ، وفتح لي طريق إلى البسط فزللت زلة ، وحجبت عن مقامي فكيف السبيل إليه ، دلني على الوصول إلى ما كنت عليه؟ فبكى أبو محمد ، وقال : يا أخي الكل في قهر هذه اللحظة ، لكني أنشدك أبياتا لبعضهم.
فأنشد يقول :
قف بالديار فهذه آثارهم |
|
تبكي الأحبة حسرة وتشوّقا |
كم قد وقفت بها أسائل |
|
مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا |