كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨))
ثم بيّن سبحانه أن ما يجري في الأكوان من الأمر والقضاء والطاعة والمعصية والكفر والإسلام هو ما جرى في الأزل بأقلام الأقدار على ألواح الأحكام السابقة بمشيئة الله وإرادته القائمة بذاته ، وفيما قسم في الأزل لخلقه كان حكما عليما حكيما لم يظلم في ذلك ؛ حيث اختار قوما بالولاية والنبوة ، وألزم قوما الكفر والضلالة ؛ لأنه مالك الملك يتصرف في ملكه كما يشاء بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) : لا يظلم على الكافر والمطرود إذا عاقبهم ؛ فإنهم مخلوقون في الأزل لقهره لا للطفه ، ولا يظلم على أهل لطفه ؛ حيث يربيهم بلطائف مشاهدته بأقدار حواصلهم ، ثم أعلمنا أن تلك الطائفتين السعداء والأشقياء يظلمون بأنفسهم بقوله : (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : ظلم سعداء المعرفة والمحبة على أنفسهم أنهم يريدون أن يدركوا الحق بحقيقة أزليته ، وهم إلى إدراك كنهه ، وهو تعالى عالم بعجز الحدث عن حمل وارد القدم كما هو ، فيريهم ما يطيقون من نفسه ، ولو يريهم من حقائقه ذرة يهلكون في أول بوادي سطواتها ، وظلم استفناء الكفر طلب الربوبية من أهل العبودية.
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))
قال الواسطي في هذه الاية : لا يتجلى لهم بحقه ؛ فإن ذلك ظلم ؛ لأن الخلق لا يحتملونه ، بل فيه ذهابهم ، ويستحيل أن يكون لهم من القوة ما يطيقون بحقه ؛ إذ في ذلك مساواة ومقارنة (١).
قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : أخبر عن عين
__________________
(١) قال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : زينة الله التي أظهر لعباده هي لباس المعرفة ، وهو نور التجلي ، والطيبات من الرزق هي حلاوة الشهود. وهي لمن كمل إيمانه وصدقه في الحياة الدنيا ، وتصفو له إلى يوم القيامة ، فهي حلال على أهل التجريد ؛ يتمتعون بها في الدارين ، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر ، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن ، وسوء الأدب مع الله ، والتعرض لعباد الله ، والشرك بالله ؛ بأن يشهدوا معه سواه ، وأن يقولوا على الله ما يوهم نقصا أو خللا في أنوار جماله وسناه. البحر المديد (٢ / ٢٤٥).