فإن وعد الله في ذلك حق لا يخيب رجاء الصادقين ، ولا يخلف مواعيد المقربين.
قال بعضهم : المغيرون من يرجع إلى غيرته في سؤاله ومهماته وطلباته ، وله ما في السماوات وما في الأرض ، فالكل له ، فمن طلب بعض الكل من غيره فقد أخطأ الطريق.
وقوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أن يحرم سائل غيره ، ويبعد عليه وجه طلبته ، ولا يخيب سائله ، ويبلغه إلى أقصى أمانيه.
ثم بيّن الحق أن من أقبل إليه يحييه بأنوار حياته حتى يبقى مع الحق بوصف شهوده على معاينة ذاته وصفاته ، ويميت نفسه حتى لا تزاحم بظلمة هواجسها أنوار أسراره في قلبه بقوله : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : يحيى قلوب العارفين بمعرفته ومشاهدته ، ويميت نفوس الزاهدين بأنوار هيبته ومراقبته ، فمعاد العارفين مشاهدة جماله وجلاله ، ومعاد الزاهدين آلاءه ونعماءه ، وهذا معنى قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
قال بعضهم : هو يحيي القلوب بإماتة النفوس بحياة القلوب ، وهذا لمن كان إليه رجوعه في جميع أحواله.
وقيل : يحيي الأسرار بأنوار العزة ، ويميت النفوس بنزع الشهوات عنها.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))
قال النصر آبادي : يحيي الأرواح في المشاهدة والتجلي ، ويميت الهياكل في الاستتار.
ثم ذكر سبحانه سبب هذه الحياة الباقية التي هي شفاء أرواح الصديقين ، وقوة أبدان المريدين ، ومنور أسرار العارفين ، وشفاء ألم فراق المشتاقين ، وخبر دوام الوصال للمستأنسين والمحبين ، وهو كلامه القديم الذي هو بناء القدم والبقاء ، وحلاوة الجمال والجلال وأحكام الربوبية والعبودية بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) : خاطب أهل ودّه وسماهم بالناس ؛ لأن غيرهم ليسوا بالناس في الحقيقة ؛ حيث لم يعرفوا حقوق الأزلية ؛ لذلك وصفهم بأجهل الجهل بقوله : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) ، والناس من نسي نفسه ، وما دون الله في الله أي : قد جاء من عند الله موعظة أحكام العبودية ، (وَشِفاءٌ) أي : أنوار الربوبية ، (وَهُدىً) : تعريف