التعارف جرى في استعمال الحذف والاختصار في المحبّة دون الإرادة ، وإن كان المعنى واحدا ، وقد ذكر أنّ لقولهم : زيد يحبّ عمرا مزية على قولهم : يريد منافعه ، لأنّ اللّفظ الأوّل ينبىء عن أنّه لا يريد إلّا منافعه ، وأنّه لا يريد شيئا من مضارّه. والثاني لا يدلّ على ذلك ، فجعلت له مزية. وعلى هذا المعنى نصف الله بأنّه يحبّ أولياءه المؤمنين من عباده ، والمعنى فيه : أنّه يريد لهم ضروب الخير من التعظيم والإجلال والنعم ، فأمّا وصف أحدنا بأنّه يحبّ الله ، فالمعنى فيه : أنّه يريد تعظيمه وعبادته والقيام بطاعته ، ولا يصحّ المعنى الّذي ذكرناه في محبّة بعضهم بعضا ، لاستحالة المنافع عليه تعالى. ومن جوّز عليه تعالى الانتفاع لا يصحّ أيضا أن يكون محبّا له على هذا المعنى ، لأنّه باعتقاده ذلك فيه قد خرج من أن يكون عارفا به ، فمحبّته في الحقيقة لا تتعلّق ولا تتوجّه إليه ، كما نقول في أصحاب التشبيه : إنّهم إذا عبدوا من اعتقدوه إلها فقد عبدوا غير الله تعالى.
فأمّا الفائدة في إعطاء المال مع محبّة الله ، فهي ظاهرة ، لأنّ إعطاء المال متى قارنته إرادة وجه الله وعبادته وطاعته ، استحقّ به الثواب ، ومتى لم يقترن به ذلك لم يستحقّ الفاعل به ثوابا وكان ضائعا. وتأثير ما ذكرناه أبلغ من تأثير حبّ المال والضنّ به ، لأنّ المحبّ للمال الضنين به متى بذله وأعطاه ولم يقصد به الطاعة والعبادة والقربة لم يستحق به شيئا من الثواب ، وإنّما يؤثّر حبّه للمال في زيادة الثواب متى حصل ما ذكرناه من قصد القربة والعبادة. ولو تقرّب بالعطيّة وهو غير ضنين بالمال ولا محبّ له لا يستحق الثواب.
وهذا الوجه لم نسبق إليه في هذه الآية ، وهو أحسن ما قيل فيها.
وقد ذكر وجه آخر وهو أن يكون الهاء راجعة إلى (مَنْ آمَنَ) أيضا وينتصب ذوي القربى بالحبّ ، ولا يجعل لآتى منصوبا ، لوضوح المعنى ، ويكون تقدير الكلام : وأعطى المال في حال حبّه ذوي القربي واليتامى ، على محبّته إيّاهم.
وهذا الوجه ليس فيه مزيّة في باب رجوع الهاء الّتي وقع عليها السؤال ، وإنّما يتبيّن ممّا تقدّم ، بتقدير انتصاب ذوي القربى بالحبّ ، وذلك غير ما وقع السؤال عنه والأجوبة الأول أقوى وأولى.
فأمّا قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) ففي رفعه وجهان ؛ أحدهما : أن يكون مرفوعا على المدح ، لأنّ النعت إذا طال وكثر رفع بعضه ونصب بعضه على المدح ، ويكون المعنى : وهم الموفون بعهدهم. قال الزجّاج : وهذا أجود الوجهين.