لا أترك منكم نافخ نار أنثى أو ولا ذكر إلا قتلته ، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوا الخبر ، فقالوا : إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا ، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه ، قال : ما كان اسمه؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال : الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، فلما رأى الملك أنهم صدقوه خر ساحدا لله ، وقال : لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا جيوشنا من كان ههنا ، فأخرج كلهم منها وخلى بني إسرائيل فيها ، ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربكم ما قد أصاب عومك من أجلك وما قتل منهم في الحرب فاهدأ ، أي اسكن باذن ربك قبل أن لا أبقى أحدا من قومك فهدأ الدم باذن الله ، وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره ، ثم انصرف الملك إلى بابل وذهب ببني إسرائيل كلهم معه وبقي بيت المقدس خرابا حتى بناه عمر مع المؤمنين بعد النبي عليهالسلام (١).
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩))
ثم قال تعالى (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) أي يرشد (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي إلى الملة أو الطريقة التي هي أسدها وأصوبها وهي شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان برسله والعمل بطاعته (وَيُبَشِّرُ) القرآن بضم الياء وكسر الشين بالتشديد ، وبفتح الياء وضم الشين بالتخفيف (٢)(الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [٩] أي ثوابا عظيما.
(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))
(وَ) يبشر أيضا (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا) أي هيئنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [١٠] أي وجيعا دائما ، وذكر المؤمنين الصالحين والكافرين دون الفسقة ، لأن الناس كانوا حينئة إما مؤمن تقي أو كافر بالله.
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) بحذف الواو لالتقاء الساكنين وفي الخط أيضا ، وهي غير محذوفة في المعنى ، ومعناه : أن الكافر يدعو على ماله وولده ونفسه (بِالشَّرِّ) فيقول عند غضبه : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي دعاء مثل دعائه ربه بأن يهب له النعمة والعافية ، يعني يطلب الشر كما يطلب الخير ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن لا يستجيب بفضله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [١١] أي يتسرع إلى طلب ما يقع في قلبه ، وقيل : العجول الضجور الذي لا صبر له على سراء ولا ضراء (٣) ، والمراد منه النضر بن الحارث حيث قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ، فأجيب به فضرب عنقه يوم بدر صبرا.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي خلقناهما علامتين لوحدانيتنا (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي أزلنا بعض ضوء القمر ، قيل : «في الزمان الأول لا يعرف الليل من النهار ، فبعث الله جبرائيل فمسح جناحه بالقمر فذهب ضوءه وبقي أثر جناحه فيه ، وهو السواد الذي في القمر» (٤) ، قال ابن عباس : «جعل الله نور الشمس سبعين جزاء ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزء فجعلها مع نور الشمس» (٥)(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي مضيئة تبصر فيها الأشياء ، يعني جعلنا القمر ذا محو والشمس ذات إضاءة (لِتَبْتَغُوا) أي لتطلبوا ببياض النهار (فَضْلاً) أي رزقا (مِنْ رَبِّكُمْ) في النهار (وَلِتَعْلَمُوا) باختلاف الليل والنهار (عَدَدَ السِّنِينَ
__________________
(١) اختصره المفسر من البغوي ، ٣ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩.
(٢) «ويبشر» : قرأ الأخوان بفتح الياء التحتية وسكون الباء وضم الشين مخففة ، والباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة. البدور الزاهرة ، ١٨٤.
(٣) هذا المعنى منقول عن البغوي ، ٣ / ٤٨٥.
(٤) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٢.
(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٥.