وَالْحِسابَ) أي حساب الأوقات ، قيل : لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ، ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يدر المؤمن وقت الحج ولا وقت حلول آجال المعاملات ولا وقت السكون والراحة (١)(وَكُلَّ شَيْءٍ) يحتاج إليه (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [١٢] أي بيناه بيانا طاهرا ، فلم يبق لكم علينا حجة ، وزال عذركم وعلتكم.
(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))
(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) أي عمله من خير وشر (فِي عُنُقِهِ) لا يفارقه كلزوم القلادة في العنق حتى يحاسب به يوم البعث ، وسمي القضاء من السعادة والشقاوة طائرا على عادة العرب فيما يتفأل به ويتشأم من سوانح الطير وبوارحها (٢) ، وخص العنق بالذكر ، لأن الإلزام فيها أشد ، وقيل : هذا أيضا من جري الكلام على عادة العرب بنسبة الأشياء اللازمة إلى الأعناق (٣)(وَنُخْرِجُ) بالنون (٤)(لَهُ) أي للإنسان (يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ) بضم الياء وتشديد القاف ، يعطاه ، وبفتح الياء وتخفيف القاف (٥) ، أي يراه (مَنْشُوراً) [١٣] أي مفتوحا يقرأه أميا كان أو غير أمي.
قيل : «ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوبة فيها شقي أو سعيد» (٦) ، وفي الآثار أن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا ينشر إلى يوم القيامة ، فاذا بعث يقال له (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي ما في كتابك (كَفى بِنَفْسِكَ) الباء زائدة في الفاعل ، أي كفى شخصك (الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [١٤] تمييز ، فعيل بمعنى الفاعل ، أي محاسبا لما ترى فيه كل حسنة وسيئة محصاة عليك ، وإنما فوض حسابه إليه لئلا ينسب الله إلى الظلم ولتجب الحجة عليه باعترافه.
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))
(مَنِ اهْتَدى) أي من اجتهد حتى وصل إلى الهداية والاستقامة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فثوابه لها (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي عقابه على نفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر ، قوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) أمة (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [١٥] إليهم إقامة للحجة وقطعا للعذر ، فيه دليل على أن ما وجب على العبد بالسمع دون العقل ، فان أجابوا الرسول وإلا عذبوا ، ورد لقول من يقول أن الحجة لازمة لهم بالعقل قبل بعثة الرسل ، لأن معهم أدلة العقل التي يعرف بها الله تعالى وقد تركوا النظر مع تمكنهم منه فستوجبوا العذاب بتركهم إياه ويجعل بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر في أدلة العقل ، وهذا القول لأهل الاعتزال.
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦))
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) أي أهلها (أَمَرْنا) بالتخفيف والمد ، أي كثرنا وبلا مد (٧) ، أي كثرنا بالخباثة من أمر القوم ، يعني إذا دنا وقت إهلاك قرية أكثرنا بالخباثة (مُتْرَفِيها) أي منعميها وأغنيائها أو أمرناهم بالطاعة ،
__________________
(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.
(٢) وسمي القضاء من السعادة والشقاوة طائرا على عادة العرب ... من سوانح الطير وبوارحها ، ب س : ـ م.
(٣) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٤٨٦.
(٤) «ونخرج» : قرأ أبو جعفر بالياء التحتية المضمومة وفتح الراء ، ويعقوب بالياء التحتية المفتوحة وضم الراء ، والباقون بالنون المضمومة وكسر الراء. البدور الزاهرة ، ١٨٤.
(٥) «يلقاه» : قرأ الشامي وأبو جعفر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. البدور الزاهرة ، ١٨٤.
(٦) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٨٦.
(٧) «أمرنا» : قرأ يعقوب بمد الهمزة ، والباقون بقصرها. البدور الزاهرة ، ١٨٤.