لأن الأمر لا يكون إلا بها ، فحذف المأمور به بدليل قوله (فَفَسَقُوا) أي فعصوا (فِيها فَحَقَّ) أي وجب (عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [١٦] أي جزيناها بإهلاك من فيها بالاستئصال.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) بيان وتمييز ل (كَمْ) ، و (كَمْ) مفعول (أَهْلَكْنا) ، و «القرن» أربعين سنة (١) ، وقيل : ثمانون (٢) ، وقيل : مائة ، وهو الأصح لما نقله عبد الله بن بشر المازني عن النبي (٣) صلىاللهعليهوسلم (٤) ، أي أهلكنا قرونا كثيرة كعاد وثمود وقوم لوط (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ) الباء زائدة فيه (بِذُنُوبِ عِبادِهِ) يتعلق بقوله (خَبِيراً بَصِيراً) [١٧] وهما منصوبان على الحال من «ربك» ، أي كفى الله عالما بسرهم وجهرهم قادرا على أخذهم ومجازاتهم لا يغفل عنهم ولا يعجز عن عقابهم ، وفيه تهديد شديد لهذه الأمة وتنبيه على أن الذنوب أسباب الهلكة لا غير.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨))
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي ثواب الدنيا بعمله (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) أي أعطينا له في الدنيا (ما نَشاءُ) من البسط والتقتير لا ما يشاء هو ، وأبدل من (لَهُ) بدل البعض بتكرير العامل قوله (لِمَنْ نُرِيدُ) إن نهلكه كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا (٥) والمجاهد للذكر والغنيمة (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي أوجبناها له (يَصْلاها) أي يدخلها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) [١٨] أي مطرودا من الرحمة مبعدا من كل خير.
(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩))
(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) من الناس بعمله (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي كما هو حقه فليس مشوبا بغرض من أغراض الدنيا (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي مخلص في إيمانه فما يبالي أوتي في الدنيا حظا من الحظوظ أو لم يؤت (فَأُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [١٩] أي مقبولا بالثواب.
(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))
(كُلًّا) أي كل واحد من المؤمنين والكافرين (نُمِدُّ) أي نعطي (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) ما قسم لهم ، فمحل (هؤُلاءِ) نصب بدل من (كُلًّا) ، وهو مفعول (نُمِدُّ (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي من زرقه ، يعني نرزق المطيع العاصي جميعا ثم يختلف بهما الحال في المآل (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) أي رزقه (مَحْظُوراً) [٢٠] أي ممنوعا عن خلقه للعصيان ، والمراد من ال (عَطاءِ) الدنيا وإلا فلاحظ للكفار في الآخرة ، والآخرة مختصة بالمؤمن.
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))
(انْظُرْ) يا محمد بعين العبرة (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي جعلناهم متفاوتين في التفضل ، أي في الرزق والعمل الصالح ، يعني طالب الدنيا وطالب الآخرة ونصب (كَيْفَ) على الحال ب (فَضَّلْنا (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أي أفضلها للمؤمنين مما فضلوا في الدنيا (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [٢١] أي في الثواب لهم ، قيل : «الرجل الأعلى في الجنة يرى فضله على من هو أسفل منه فيها ، والرجل الأسفل لا يرى أن فوقه أحدا» (٦).
(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))
ثم قال مخاطبا للنبي عليهالسلام ومسمعا لغيره (لا تَجْعَلْ) يا محمد (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ) أي فتبقى في النار (مَذْمُوماً) أي يذمك الناس (مَخْذُولاً) [٢٢] أي ذليلا بلا ناصر.
__________________
(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٨٨.
(٢) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٨.
(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٤٨٨.
(٤) القرن أربعين سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وهو الأصح ... النبي صلىاللهعليهوسلم ، ب س : ـ م.
(٥) والمهاجر للدنيا ، ب س : ـ م.
(٦) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٦٤.