الشهود في الشهادة شرط عند أبي حنيفة رحمهالله ، ويجوز أن يحضروا متفرقين عند الشافعي رحمهالله ، ولا يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم عنده خلافا لأبي حنيفة رحمهالله ويجلد القاذف كما يجلد الزاني إلا أنه لا ينزع عنه من الثياب إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو والقاذفة أيضا في كيفية الجلد مثل الزانية ، قوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) أي للقاذفين (شَهادَةً أَبَداً) عطف على قوله (فَاجْلِدُوهُمْ) ، فرد بعضهم شهادة القاذف المحدود مؤبدا وإن تاب وحسنت حاله بهذه الآية لكن اسم الفسق يزول عنه إذا استأنف ، قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [٤] أي العاصون عند ربهم.
(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
ثم استثنى منه (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد القذف وحده عن القذف (وَأَصْلَحُوا) حالهم بالعمل الصالح فيكون المستثنى منصوبا ، لأنه من كلام موجب ، وإن جعل الاستثناء من قوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) فلا وقف على (أَبَداً) ويكون المستثنى مجرورا بدلا من «هم» في (لَهُمْ) ، فيقبل شهادة القاذف المحدود إذا تاب وحسنت حاله عند جماعة ، منهم الشافعي رضي الله عنه ومالك رحمهالله فعندهما يتعلق رد الشهادة بنفس القذف ، فاذا تاب عن القذف عاد مقبول الشهادة ، وعند أبي حنيفة رحمهالله يتعلق الرد باستيفاء الحد فاذا شهد قبل الحد أو قبل استيفائه قبلت شهادته ، وإذا استوفى لم تقبل وإن تاب وتمسك الكل بالآية ، فأبو حنيفة رحمهالله جعل جزاء الشرط الجلد ورد الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، فكان القاذف مردود الشهادة في مدة حيوته ، وجعل قوله (وَأُولئِكَ) الآية كلاما مستأنفا غير داخل في حيز الجزاء ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله و (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء من «الفاسقين» ، ويدل عليه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٥] يغفر ذنوبهم فلا ينسبون إلى الفسق بعد الجلد ورد الشهادة عنهم ، والشافعي رحمهالله جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية ، وظاهر النص يدل على أن الجمل الثلاث جواب الشرط بالعطف ، تقديره : من قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه ، فتكون الجملة الثالثة في معنى الأمر ليصح العطف على ما قبله ، واعلم أن الكافر إذا قذف ، فتاب عن الكفر يقبل شهادته بالإجماع ، لأن المسلمين لا يعبأون بسب الكفار ، لأنهم شهروا بالعداوة والطعن بالباطل لأهل الإسلام فلا يلحق المقذوف عار وشين بقذفهم ، قيل : لا يجوز العفو عن القاذف بعد ثبوت الحد لا للإمام ولا للمقذوف ولا يصلح بمال ولا يورث الحد عند أبي حنيفة رحمهالله وإذا تاب قبل ثبوته قبل وسقط الحد (١) ، قيل : أمثل الضرب التعزير ثم ضرب الزنا ثم ضرب شرب الخمر ثم ضرب القاذف (٢) ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب وإنما عوقب صيانة للإعراض.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦))
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي يقذفون (أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون بالقذف (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بالرفع صفة ل (شُهَداءُ) ، أي غير أنفسهم (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) والباء يتعلق ب (شَهاداتٍ) لا ب «شهادة» لئلا يفصل بينهما بالخبر ، وقرئ «أربع» (٣) بالنصب بفعل مضمر ، وخبر المبتدأ محمذوف ، تقديره : فشهادة أحدهم واجب أن يشهد أربع شهادات بالله ليدرأ عنه الحد إن لم يكن الاعتراف ، ومعمول (شَهاداتٍ) قوله (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [٦] واللام في الخبر يمنع فتح «إنه».
__________________
(١) نقل المؤلف هذا المعنى عن الكشاف باختصار ، ٤ / ١١٦.
(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٣) «أربع» : قرأ حفص والأخوان وخلف برفع العين من «أربع» ، وغيرهم بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٢١.