عام في كل ذكر ، وقيل : «يتلى فيها كتابه» (١) ، وقيل : يوحد فيها ذاته تعالى (٢) ، قيل : هي المساجد كلها لقول ابن عباس رضي الله عنه : «المساجد بيوت الله في الأرض يضيء لأهل السماء كما يضيء النجوم لأهل الأرض» (٣) ، وقيل : «هي أربعة ، مكة بناها إبراهيم ، والمقدس بناه سليمان وداود ، ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما نبينا محمد عليه وعليهم الصلوة والسّلام أجمعين» (٤)(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [٣٦] على البناء للمفعول وله القائم مقام الفاعل ، و (رِجالٌ) مرفوع بما دل عليه المجهول وهو (يُسَبِّحُ) المعلوم ، وقرئ «يسبح» معلوما (٥) و (رِجالٌ) فاعله ، و (الْآصالِ) جمع أصل وهو العشي ، أي يسبحه بالبكر والعشايا ، وقيل : التسبيح هنا الصلوات المفروضة (٦) ، فالمراد ب «الغدو» الصبح وب (الْآصالِ) الظهر والعصر والعشاءان (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) أي بيع وشراء كما هو وصف التاجر الرابح أو التجارة الشراء لقوله (وَلا بَيْعٌ) بعده ، يعني لا يشتغلون بشيء (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) حقيقة أو عن الصلوة المكتوبة (وَ) لا عن (إِقامِ الصَّلاةِ) لوقتها (وَ) لا عن (إِيتاءِ) أي إعطاء (الزَّكاةِ) لمستحقها عند وجوبها (يَخافُونَ يَوْماً) وهو يوم القيامة (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) [٣٧] أي تنتقل عن أماكنها لهول ذلك اليوم (لِيَجْزِيَهُمُ) يتعلق ب (يُسَبِّحُ) أو ب (يَخافُونَ) ، المعنى : كان تسبيحهم أو خوفهم ليثيبهم (اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي أحسن الثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على الثواب وهو العطاء الخاص لا لعمل (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ما يتفضل به (بِغَيْرِ حِسابٍ) [٣٨] وأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩))
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) وهو ما يخيل للإنسان من بعيد أنه ماء جار (بِقِيعَةٍ) وهي المنبسطة من الأرض (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي السراب (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي ماء فيزداد عطشه فكذا الكافر يحسب أن عمله ينفعه يوم البعث فيغلبه الرجاء إليه ، فاذا جاءه لم يجد ما رجاه فيزداد انقطاعه (وَوَجَدَ اللهَ) أي قدرته (عِنْدَهُ) أي عند السراب (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي جزاء كفره فيأخذه الزبانية فيلقونه في النار ، شبه الأعمال الصالحة التي يحسبها الكافر تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه بسراب يراه العاطش بالمفازة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ، فغلبه العطش ولم ينفعه سعيه إليه (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [٣٩] أي إنه تعالى قادر إذا حاسب ، فحسابه سريع لا يحتاج إلى كتب يد ولا حفظ صدر ، قيل : إذا حاسب الخلق يوم القيامة يحاسبهم جميعا دفعة فيظن كل واحد أنه يحاسبه خاصة (٧).
(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))
ثم ضرب للكافر مثلا آخر بقوله (أَوْ كَظُلُماتٍ) أي أو أعمال الكفار مشبهة بأعمال أصحاب الظلمات (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) أي عميق ، واللج معظم الماء ، والياء للنسبة (يَغْشاهُ) أي يعلو بالبحر (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) آخر يركب بعضه بعضا لكثرته (مِنْ فَوْقِهِ) أي من فوق الموج (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هي ظلمات (٨)(بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج ، فشبهت أعمال الكفار واغترارهم بها بسراب يغتر به من طلبه ، ثم شبهت ثانيا في ظلماتها
__________________
(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٧ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٢٨.
(٢) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٤١.
(٣) انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٦.
(٤) عن ابن بريدة ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.
(٥) «يسبح» : فتح الباء الشامي وشعبة ، وكسرها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢٢٤.
(٦) ذكره أهل التفسير ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٧.
(٧) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٤٢.
(٨) ظلمات ، ي : الظلمات ، ح ، ـ و.