وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب ، وشبه قلب الكافر بالبحر وما يغشى قلبه من الشرك بالموج والختم على قلبه بالسحاب ، وقرئ «ظلمات» بالجر (١) بدل من (كَظُلُماتٍ) ، أو لإضافة (سَحابٌ) إليها إذا لم ينون (إِذا أَخْرَجَ) الرجل من البحر (يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فيه مبالغة حيث لم يقل لم يرها ، أي لم يقارب أن يراها فضلا عن أن يراها ، لأن «كاد» بمعنى قرب هنا ، وإذا نفي القرب كان هو لنفي الرؤية أنفى ، وقيل : «كاد» بمعنى النفي وإذا دخل عليه نفي وقع الفعل ، لأن نفي النفي إيجاب ، وإذا لم يدخل لم يقع ، وهذا هو المشهور ، فحينئذ يجوز أن يراها بعد بطؤ لشدة الظلمة (٢)(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [٤٠] أي من لم يهده الله إيمانا في الدنيا لم يهتد في الآخرة إلى الجنة ، وقيل : من لم يعطه نور توفيقه فهو في ظلمة الباطل ، هذا من باب الكناية عن الأول ، لأن إعطاء نور التوفيق من لوازم الإيمان والعمل الصالح (٣) ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة كان يطلب الدين ويتعبد ويلبس المسوح فلما جاءه الإسلام كفر (٤).
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣))
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ) تسبيحا حقيقة يعلمه الله تعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على (مَنْ) قوله (صَافَّاتٍ) حال من الطير ، أي باسطات أجنحتهن في الهواء يصففن بها وهو تسبيحها عند البعض (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي كل من المسبحين والمصلين علم عبادته ، ويجوز أن يكون الضمير في (عَلِمَ) و (صَلاتَهُ) و (تَسْبِيحَهُ) لله تعالى ، ويجوز أن يراد بالصلوة الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمه سائر مصالحه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ [٤١] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [٤٢] أي المرجع في الآخرة (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم بطريق الوحي (أَنَّ اللهَ يُزْجِي) أي يسوق (سَحاباً) أي غيما (ثُمَّ يُؤَلِّفُ) أي يضم (بَيْنَهُ) أي بين أجزاء الغيم فيصل بعضه إلى بعض (٥)(ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من فتوقه ومخارجه ، جمع خلل كجبال في جبل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) «من» الأولى ابتداء والثانية تبعيض والثالثة بيان أو زائدة بمعنى ينزل البرد من السحاب من جبال فيها ، فعلى هذا مفعول «ينزل من برد» ، وعلى تقدير عدم الزيادة مفعول «ينزل من جبال» ، فيجوز أن يكون في السماء جبال برد كما في الأرض جبال حجر أو يكون الثانية زائدة والهاء في (فِيها) للأرض ، و «في» بمعنى على ، لأن الإنزال على الأرض غالبا ، فيكون تقديره : ينزل من السماء بردا كالجبال على الأرض فبذكر الجبال يريد كثرة البرد كما يقال فلان يملك جبالا من ذهب ، وقد يراد السحاب من السماء (فَيُصِيبُ بِهِ) أي فيهلك بالبرد (مَنْ يَشاءُ) من عباده إذا كان في مفازة كاهلاك ماله من الزرع وغيره (وَيَصْرِفُهُ) عمن (يَشاءُ) فلا يضره (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوءه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [٤٣] أي يختطفها من شدة نوره.
(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))
(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يذهب بأحدهما ويجيء بالآخر أو ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر (إِنَ
__________________
(١) «سَحابٌ ظُلُماتٌ» : قرأ البزي بترك تنوين «سحاب مع جر «ظلمات» ، وقنبل بتنوين «سحاب» مع جر «ظلمات» كذلك ، وغيرهما بتنوين «سحاب» ورفع «ظلمات». البدور الزاهرة ، ٢٢٤.
(٢) ولم أجد له مأخذا في كتب المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٣) اختصره من الكشاف ، ٤ / ١٣٠.
(٤) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٢١٠.
(٥) بعض ، و : بعضه ، ح ي.