فِي ذلِكَ) أي في التقليب (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [٤٤] أي لأصحاب العقول.
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) وقرئ «خالق كل دابة» بالإضافة (١) ، أي الله خلق كل ذي روح سوى الملك والجن (مِنْ ماءٍ) مختص بها وهو النطفة وهي تعم العقلاء وغيرهم ، لكنه غلب العقلاء فكأن الدواب كلهم مميزون ، فلذلك جاء ب (مِنْ) للعقلاء في قوله (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات ويسمى الزحف على البطن مشيا للاتساع ، لأنه يقوم مقام المشي أو للمشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالأناسي والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالبهائم ولم يذكر الماشي على أكثر منها ، لأنه كالماشي على أربع في رأي العين أو هو يمشي على أربع منها في الحقيقة ، وقدم من هذه الأجناس الثلاثة ما هو أعرف في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع ، وفي خلقه من الماء تعجيب للناس وإظهار لقدرته بالباهرة ليعرفوه ويوحدوه ، لأن الخلق من الماء أعجب من كل فعل بينهم لشدة طوعه للفاعل ، ثم قال (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من ألوان الخلق (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٤٥] فهو المستحق للعبادة والإطاعة له.
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي يبين للناس دينهم (وَاللهُ يَهْدِي) أي يرشد (مَنْ يَشاءُ) أي من كان أهلا لدينه (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٤٦] أي إلى دين الإسلام.
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧))
قوله (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) أمر الرسول (ثُمَّ يَتَوَلَّى) أي يعرض عن طاعتهما (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول ، نزل في بشر المنافق ويهودي كان بينهما حكومة في أرض ، فطلب بشر الحكومة إلى كعب ابن الأشرف وطلب اليهودي إلى النبي عليهالسلام ، فقال بشر : أن محمدا يحيف علينا (٢)(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [٤٧] حقيقة بدليل الإعراض عن حكمه.
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨))
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى حكمهما (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) بالقرآن (إِذا فَرِيقٌ) أي طائفة (مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) [٤٨] عن الاتيان خوفا أن يحكم عليهم.
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩))
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ) أي إن يعلموا أن الحكم لهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [٤٩] أي منقادين بسرعة ، والإذعان الإسراع بالطاعة.
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي كفر (أَمِ ارْتابُوا) أي شكوا في نبوته ، يعني هم كذلك فالاستفهام للتقرير (أَمْ يَخافُونَ) أي بل يخافون (أَنْ يَحِيفَ) أي يجور (اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكم ، ثم أبطل ذلك بقوله (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [٥٠] باعراضهم عن الحق وطلبهم ما ليس لهم لا النبي عليهالسلام.
__________________
(١) «خَلَقَ كُلَّ» : قرأ الأخوان وخلف «خالق» بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وخفض لام «كل» ، والباقون «خلق» بترك الألف وفتح اللام والقاف ونصب لام «كل». البدور الزاهرة ، ٢٢٤.
(٢) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٤٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢١٣.