(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦))
قوله (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بفتح الياء وسكونها (١) ، نزل فيمن كان يؤذى بمكة ويخشى الجوع إن خرج منها فضاقت عليه (٢) ، أي اخرجوا فاني رازقكم حيث كنتم أو إذا عمل بالمعاصي في أرض ولا تستطيعون (٣) منعها أو أمرتم بفعلها فاهربوا منها (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [٥٦] أي فان لم تتمكنوا من العبادة بكثرة المعاصي بأرض فاعبدوني بغيرها (٤) ، قيل : يجب على كل من كان بأرض يعمل فيها بالمعاصي ولا يقدر على تغييرها أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة (٥) ، فالفاء في (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) جواب شرط محذوف كما قدرناه ، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادته معنى الاختصاص ، وأدخل الفاء الذي كان في الشرط في هذا المفعول المقدم ، وأما الفاء الذي كان في الجزاء فمقدرة في الجزاء العامل في «إياي» ، والفاء الثالث لتكرير الجزاء ، تقديره : فاياي فاعبدوا فاعبدون.
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧))
قوله (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) نزل حين كانوا يخافون على أنفسهم بالخروج (٦) ، أي هاجروا ولا تخافوا من الموت فان الموت ملاقيكم أينما كنتم (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [٥٧] بالياء والتاء (٧) ، فهذا تشجيع للمهاجر عن بلده بعد الأمر له بالحرص على العبادة وطلبه لها أوفق البلاد ، أي كل نفس واجدة مرارة الموت وكربه البتة كما يجد الذائق طعم المذوق ، فهي إذا تيقنت الموت سهل عليها مفارقة وطنها ، فالواجب عليه التزود والاستعداد للوصول إلى الجزاء.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨))
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الخيرات ، ومنها الهجرة لأنها كانت فريضة في ذلك الوقت (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) بالباء ، أي لننزلنهم من التبوئة وهي النزول ، وقرئ بالثاء «لنثوئنهم» (٨) ، إفعال من الثواء وهو الإقامة ، وثوى إذا تعدى بهمزة النقل يتعدى إلى مفعول واحد ، وهنا تعدى إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف حملا على ننزلنهم (٩) أو على (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أو على حذف الجار وإيصال الفعل ، أي إلى الغرف ، يعني لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [٥٨] أي ثوابهم.
(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))
(الَّذِينَ صَبَرُوا) أي هم الذين صبروا على الشدائد ومفارقة الأوطان للدين وأذى المشركين (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٥٩] في الرزق وغيره.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))
قوله (وَكَأَيِّنْ) رفع على الابتداء ، أي وكم (مِنْ دَابَّةٍ) يعني من حيوان يدب في الأرض ومن طير في الهواء
__________________
(١) «يا عِبادِيَ» : قرأ البصريان والأخوان وخلف باسكان الياء في الحالين ، والباقون بفتحها وصلا وإسكانها وقفا. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.
(٢) عن مقاتل والكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٨٣.
(٣) ولا تستطيعون ، و : ولا يستطيعون ، ح ي.
(٤) أي فان لم تتمكنوا من العبادة بكثرة المعاصي بأرض فاعبدوني بغيرها ، وي : أي فان لم يتمكنوا من العبادة بأرض بكثرة المعاصي فاعبدوني بغيرها ، ح.
(٥) نقل المفسر هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٣٨٣.
(٦) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٥٤٢.
(٧) «ترجعون» : قرأ شعبة بياء الغيبة ، وغيره بتاء الخطاب ، ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم ، وغيره بضم الياء أو التاء وفتح الجيم. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.
(٨) «لنبوئنهم» : قرأ الأخوان وخلف بثاء مثلثة ساكنة بعد النون وتخفيف الواو وبعدها ياء تحتية مفتوحة ، والباقون بباء موحدة في مكان التاء وتشديد الواو وبعدها همزة مفتوحة ، وأبدل أبو جعفر همزه ياء مفتوحة مطلقا. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.
(٩) ننزلنهم ، وي : لننزلنهم ، ح.