أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [٣] أي إلا وهو مسطور في اللوح ، وإذا ثبت بهذا الوصف أن شيئا من الخفيات لا يفوت من علمه اندرج تحته علمه بوقت قيام الساعة الذي هو من مشاهير الغيوب ، وأدخلها في الخفية وأسرعها إلى القلب إذا قيل إنه عالم الغيب فصح ثبوت ما أنكروه بأبلغ وجه وآكده ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل عقبه بذكر تعليل إثباتها قطعا ، لأن الله تعالى وضع في العقول وجوب الجزاء للمحسن والمسيء لما سنذكره ، فاللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يتعلق بقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، أي ليثيب المؤمنين الصالحين (أُولئِكَ) أي المؤمنون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [٤] أي الجنة ، وهذا التعليل عقلي ، لأن العقل يقتضي جزاء كل عامل على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإلا لزم أن يكون الله ظالما ، تعالى عنه علوا كبيرا.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥))
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي في القرآن (مُعاجِزِينَ) أي معاندين ، وقرئ «معجزين» بالتشديد (١) ، أي مثبطين عن الإيمان بها وإرادته (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) أي سوء العذاب (أَلِيمٌ) [٥] بالجر ، أي مؤلم ، وقرئ برفعه (٢) نعتا لل (عَذابٌ).
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))
قوله (وَيَرَى) عطف على (لِيَجْزِيَ) ، أي ليعلم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن تبعهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا ككعب الأحبار وعبد الله بن سلام ، قوله (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) بالنصب فيهما مفعولان ل (يَرَى) وهو فصل بينهما ، والمعنى : أن اتيان الساعة ليعلم أولوا العلم عنده أنه الحق عالما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المكذبين ، وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه الحق فيزدادوا حسرة وغما (وَيَهْدِي) عطف على (الْحَقَّ) فيكون في تقدير المفعول ، أي يرون المنزل إليك حقا وهاديا (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [٦] أي الرب المنتقم المحمود في فعاله.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧))
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قريش قال بعضهم بعضا (٣) سخرية بينهم متجاهلين به وبأمره وقد كان النبي عليهالسلام مشهورا في قريش وأنباؤه شائعا عندهم (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) هو محمد (يُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم بأعجوبة من أعاجيب لتضحكوا بها أنكم (إِذا مُزِّقْتُمْ) أي تفرقت أجزاؤكم (كُلَّ مُمَزَّقٍ) مصدر ، أي كل تفرق وتبدد أو مكان ، لأنهم يمزقون بالموت في كل مكان في بطون الطير والسباع والجبال والبراري وقعر البحر ، ومر بهم السيل ، فذهب بهم كل مذهب وكذا الريح ، فطرحتهم كل مطرح (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [٧] هو جواب (إِذا) والعامل فيه مدلوله وهو تبعثون ، أي أنكم تبعثون وتنشؤون خلقا جديدا بعد أن تكونوا (٤) ترابا.
(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨))
(أَفْتَرى) بفتح الألف ، أصله أافترى بهمزة الاستفهام الداخلة على همزة الوصل للإنكار والتعجب أو أاختلق محمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما ينسب إليه من ذلك (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون يلقيه على لسانه من غير قصد عنه ، فبرأه الله مما قالوا بالإضراب بقوله (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث واقعون (فِي الْعَذابِ) فيما يؤديهم إليه (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) [٨] عن الهدى وهم غافلون عن ذلك ، و (الْبَعِيدِ) صفة الضال إذا بعد عن الجادة فيكون وصف الضلال بالبعد مجازا.
__________________
(١) «معاجزين» : قرأ المكي والبصري بحذف الألف بعد العين مع تشديد الجيم ، والباقون باثبات الألف وتخفيف الجيم. البدور الزاهرة ، ٢٥٨.
(٢) «أليم» : قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب برفع الميم ، والباقون بخفضها. البدور الزاهرة ، ٢٥٨.
(٣) بعضا ، وي : ـ ح.
(٤) تكونوا ، وي : يكونوا ، ح.