وجريها بالعشي كذلك (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وهو النحاس المذاب من القطران والمراد من (عَيْنَ الْقِطْرِ) معدن النحاس ، ولكنه أسأله كما ألان الحديد لداود عليهالسلام فنبع كما ينبع الماء ، فكان من باب (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)(١) ، قيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام (٢) ، وكل ما يعمل الناس اليوم مما أعطي لسليمان (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ) أي سخرنا له من الجن من يعمل (بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بأمره (وَمَنْ يَزِغْ) أي يمل (مِنْهُمْ) أي من الجن (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) [١٢] أي النار وهو عذاب الآخرة ، وقيل : «كان معه ملك بيده سوط من نار فمن استعصى منهم عن طاعته ضربه به من حيث لا يراه الجني» (٣).
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أي الأماكن الشريفة كالقصور والحصون ، وقيل : المساجد وإنما سميت محاريب لأنه يحارب عليها ويلتجأ إليها في الشدة (٤)(وَتَماثِيلَ) أي وصورا من زجاج ونحاس وصفر ورخام ليراها الناس فيفرحوا بها فيعبدوا الله كما يعبده أربابها ، فان الشياطين كانوا يعملون في المساجد صور الملائكة والأنبياء والصالحين من هذه الأجسام لاقتداء الناس بهم في العبادة ، وكان ذلك جائزا في شريعته عليهالسلام ، لأنه ليس من مقبحات العقل ، قوله (٥)(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) بالياء في الوصل والوقف أو في الوصل وبغير الياء فيهما (٦) ، وال «جفان» جمع جفنة وهي القصعة العظيمة ، و «الجوابي» جمع الجابية وهي الحوض الكبير لأن الماء يجبى فيه ، أي يجمع ، قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل للأكل منها (٧)(وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات عاليات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها وكان يصعد عليها بالسلاليم ، قوله (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) حكاية ما قيل لداود وآله ، أي وقلنا اعملوا يا آل داود عملا لله (شُكْراً) أي على وجه الشكر لنعمائه أو اشكروا شرا لله أو اعملوا شاكرين له (٨)(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [١٣] وهو من يرى عجزه عن الشكر ، وقيل : هو الباذل وسعه في أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا (٩).
(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))
(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي لما مات سليمان (ما دَلَّهُمْ) أي ما دل الشياطين (عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) وهي الأرضة دويبة تأكل الخشبة من الأرض بالحركة والسكون مصدر وهو فعلها فأضيفت إليه ، فقيل : دابة الأرض بمعنى دابة الأكل يقال أرضت الخبشة أرضا إذا أكلتها الأرضة (١٠)(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه لأنه ينسأ بها ويطرد ويؤخر (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط سليمان ميتا (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) أي ظهر أمرهم للإنس ، وكانت الإنس تزعم أن الجن تعلم الغيب ، قوله (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) [١٤] بدل من (الْجِنُّ) بدل اشتمال ، أي ظهر للإنس أن الجن لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب الشديد وهو التسخير والمشاق مدة موت سليمان ، لأنهم كانوا يعملون الأعمال الشاقة في مماته كحياته.
روي : أنه دخل بيت المقدس متحنثا يوما وقال : اللهم عم موتي على الجن حتى تعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب ، وكانت الجن تسرق السمع ويموهون على الإنس أنهم يعلمون الغيب وكانت الجن تعمل أعمالها كما
__________________
(١) يوسف (١٣) ، ٣٦.
(٢) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٦١.
(٣) عن ابن عباس والسدي ، انظر الكشاف ، ٥ / ٦١ ـ ٦٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٦٨.
(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٥ / ٦٢.
(٥) قوله ، ي : ـ ح و.
(٦) «كالجواب» : قرأ ورش وأبو عمرو باثبات الياء وصلا وابن كثير ويعقوب باثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها كذلك. البدور الزاهرة ، ٢٥٩.
(٧) وقد أخذه عن البغوي ، ٤ / ٥٠٠.
(٨) له ، ح و : الله ، ي.
(٩) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٦٢.
(١٠) نقل المفسر هذا المعنى عن الكشاف ، ٥ / ٦٢.