كانت تعمل قبل دخوله بيت المقدس ، وكان لمحرابه كوى تنظر الجن إليه منها ، فقام مصليا معتمدا على عصاه فمات قائما ولم تعرف الجن موته قائما ، وعملوا له بعد موته سنة فمر به شيطان مرارا فلم يسمع صوته فرفع رأسه فرآه ميتا ، وكان لا ينظر إليه في حياته أحد منهم إلا احترق ، ففتحوا الباب فرأوه ميتا ورأوا عصاه قد أكلته الأرضة فوضعوا الأرضة على العصا يوما وليلة ليعرفوا وقت موته فأكلت ، فحسبوا على ذلك وعلموا أنه مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة (١).
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦))
قوله (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) الآية نزل ليعتبر الناس بحال من تقدمهم ممن لم يؤمنوا ولم يشكروا على نعم الله تعالى فأهلكوا (٢) ، قيل : سبأ اسم قبيلة بمأرب من اليمن (٣)(فِي مَسْكَنِهِمْ) بفتح الكاف وكسرها موضع سكناهم وهو بلدهم الذي كانوا مقيمين فيه وقرئ «مساكنهم» (٤)(آيَةٌ) أي عبرة لأهل العقل و (جَنَّتانِ) بدل من (آيَةٌ) أو خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : ما الآية؟ فقال : الآية جنتان ، ومعنى كونهما آية قصتهما وإعراض أهلهما عن شكر الله عليهما فخربهما وأبدلهم عنهما الخمط والأثل ليتعظوا فيؤمنوا ، والمراد بال (جَنَّتانِ) جماعتان من البساتين (عَنْ يَمِينٍ) من بلدهم (وَشِمالٍ) منه وفيهما أشجار كثيرة وثمار طيبة وأنهار عذبة تجري فيهما (كُلُوا) أي قال لهم الأنبياء المبعوثون إليهم كلوا (مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) الذي خلقكم ورزقكم وطلب شكركم (وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ) أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة (طَيِّبَةٌ) لم تكن بسبخة (٥) وليس بها بعوض ولا برغوث ولا ذباب ولا عقرب ولا حية ، وكانت أخصب البلاد تخرج المرأة وعلى رأسها مكتل وتسير بين أشجار البساتين فيمتليء المكتل مما يتساقط فيه من أنواع الثمر (وَرَبٌّ) أي هو رب (غَفُورٌ) [١٥] لمن آمن وشكر ، وكان الأنبياء المبعوثون (٦) إليهم ثلاثة عشر يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم فسلط عليهم الخلد وهو فأرة أعمى فنقب سدهم من أسفله فغرق أموالهم وفرقهم وهو معنى قوله (فَأَعْرَضُوا) عن الإيمان وقالوا من الذي يأخذ منا هذه النعم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وهو السيل الذي لا يطاق أو المطر الشديد أو اسم الوادي (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) أخريين (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) باضافة (أُكُلٍ) إلى ال (خَمْطٍ) ، أي أكل من خمط ، والأكل الثمر بضم الكاف والسكون (٧) ، والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك وأكل خمط بالتنوين على أن أصله ذواتي أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم (٨) المضاف إليه مقامه أو على وصف الأكل بالخمط ، أي ذواتي أكل بشع لأنه أخذ طعما من مرارة لا يمكن أكله أو أنه عطف بيان لل (أُكُلٍ) ، أي بين أنه من أي الشجر ، قوله (وَأَثْلٍ) عطف على (أُكُلٍ) وهو شجر يشبه الطرفاء (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [١٦] وهو شجر النبق وهو أيضا عطف عليه ، لأنه لا أكل لهما وإلا لعطف على (خَمْطٍ) ، وإنما قلل السدر لأنه أعز ما بدلوا وأكرمه ، وتسمية البدل ب (جَنَّتَيْنِ) لأجل المشاكلة ، وفيه ضرب من التهكم.
__________________
(١) اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٠٠ ـ ٥٠١ ؛ والكشاف ، ٥ / ٦٣.
(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ٥ / ٦٣.
(٣) ذكر ابن عباس نحوه ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٦٩.
(٤) «مسكنهم» : قرأ حفص وحمزة باسكان السين وفتح الكاف على الإفراد ، والكسائي وخلف في اختياره باسكان السين وكسر الكاف ، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف على الجمع. البدور الزاهرة ، ٢٦٠.
(٥) بسبخة ، وي : سبخة ، ح.
(٦) المبعوثون ، وي : مبعوثون ، ح.
(٧) «ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ» : قرأ نافع وابن كثير باسكان الكاف وتنوين اللام وأبو عمرو ويعقوب بضم الكاف وترك التنوين والباقون بضم الكاف وتنوين اللام ، ولا يخفى ما فيه من نقل حركة الهمزة إلى الياء قبلها مع حذف الهمزة لورش ومن إخفاء التنوين في الخاء لأبي جعفر. البدور الزاهرة ، ٢٦٠.
(٨) وأقيم ، وي : وأضيف ، ح.