(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧))
(ذلِكَ) أي الجزاء (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [١٧] بضم الياء وفتح الزاء ورفع «الكفور» ، أي لا يستحق مثل ذلك الجزاء إلا الكافر وهو العقاب العاجل ، وبالنون المضمومة والزاء المكسورة ونصب «الكفور» (١) مفعولا إخبار منه تعالى عن نفسه ، فالمجازاة هنا بمعنى المعاقبة لا بمعنى المعادلة.
روي : أن بلقيس لما ملكت على سبأ واختصم القوم على ماء واديهم ، وكان يأتيهم السيل من بعيد فيؤذيهم سدت بلقيس ما بين الجبلين بسد فيه أبواب بعضها فوق بعض ، وجعلت بركة لها اثنا عشر مخرجا كعدد أنهارهم التي يسقون بها بساتينهم فأخصبت بلادهم وكثرت نعمهم ، فماتت بلقيس وهم في ذلك الخير فبعث إليهم الأنبياء ، فذكروهم نعم الله عليهم وخوفوهم عقابه ، فقالوا ما نعرف علينا نعمة فجاء الخلد ودخل بين الحجرتين فخرب السد من داخله وهم لا يعلمون (٢).
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨))
قوله (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) نزل للإخبار عن حالهم الثانية وهي حال توبتهم (٣) ، يعني لما هلكت أموالهم قالوا نحن نتوب إلى الله ويرد علينا خيرنا فرد الله عليهم خيرا كثيرا من ذلك فكفروا نعمته ثانيا فعذبهم الله ثانيا أشد من ذلك فأخبر بقوله (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) ، وهم أهل اليمن وبين القرى التي باركنا فيها وهي قرى الشام بالمياه والأشجار والثمار والخصب (قُرىً ظاهِرَةً) لأعين الناظرين متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي سيرهم على قدر مقيلهم ومبيعهم ، أي كان الغادي يقيل في قرية والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يحتاجون إلى ماء ولا زاد ، وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها) لمصالحكم (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أي إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار لا تفاوت في سيركم باختلاف الأوقات (٤) أو المعنى : سيروا وإن تطاولت مدة سفركم أياما وليالي (آمِنِينَ) [١٨] من العدو والجوع والعطش والسباع ، ولا قول ثمه حقيقة ولكن التمكين للسير حاصل لهم بتسوية أسبابه لهم ، فكأنهم أمروا به فطغوا بسبب كثرة النعمة وملوا العافية فطلبوا التعب والكد.
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ) بالألف ، وقرئ «بعد» بالتشديد (٥)(بَيْنَ أَسْفارِنا) أي اجعل بيننا وبين الشام مفاوز ، قيل : تمنوا ذلك ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فعجل الله لهم بالإجابة (٦)(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بترك شكر نعمة الله وجحدها (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم يتحدثون بهم ويتعجبون من أحوالهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم تفريقا في أقطار الأرض بحيث لا يجتمع منهم اثنان في مكان واحد (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تفريقهم وإهلاكهم (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الطاعات وعن المعاصي و (٧) (شَكُورٍ) [١٩] للنعم.
__________________
(١) «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» : قرأ المدنيان والمكي والبصري والشامي وشعبة بياء مضمومة في مكان النون وفتح الزاي وألف بعدها ورفع راء «الكفور» ، والباقون بنون مضمومة وكسر الزاي وياء ساكنة مدية بعدها ونصب راء «الكفور». البدور الزاهرة ، ٢٦٠.
(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٤) الأوقات ، وي : أوقات ، ح.
(٥) «رَبَّنا باعِدْ» : قرأ المكي والبصري وهشام بنصب باء «ربنا» وبحذف الألف بعد باء «باعد» مع تشديد العين مكسورة وإسكان الدال على أنه فعل أمر ، ويعقوب برفع باء «ربنا» وباثبات الألف بعد باء «باعد» مع فتح العين مخففة وفتح الدال على أنه ماض ، والباقون بنصب باء «ربنا» وباثبات الألف بعد باء «باعد» مع كسر العين مخففة وإسكان الدال على أنه فعل أمر أيضا. البدور الزاهرة ، ٢٦٠.
(٦) قد أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٦٥.
(٧) و ، ي : ـ ح و.