(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢))
ثم أخبر الله تعالى عن حال موسى عليهالسلام وقومه تهديدا لمكذبي النبي عليهالسلام من أهل مكة فقال (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية جملة واحدة (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) من الضلالة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) بالياء غيبة (١) ، أي لئلا يتخذوا أو «أن» تفسير فهي بمعنى النهي ، أي لا يتخذ بنو إسرائيل (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [٢] أي ربا كفيلا يكلون أمورهم إليه ، وبتاء الخطاب لزيادة التخويف (٢) ، يعني لا تعبدوا من دوني ربا.
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب بأنه مفعول ثان لقوله «لا تتخذوا» ، يعني لا تعبدوا ذرية المحمولين في السفينة وهي عيسى وعزير أو منادا بحذف حرف النداء ، ينادي كفار مكة ، أي يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه ، وهذا منة على جميع الناس ، لأن كلهم من ذرية من أنجاه الله من الغرق بالسفينة ، وتوبيخ لمن أشرك منهم بالله ، يعني أنهم كانوا مؤمنين به فكونوا مثلهم في الإيمان بالنبي عليهالسلام ، ثم أثنى على نوح بقوله (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [٣] أي كثير الشكر لله كثير الخير للمساكين ، قيل : كان يعرض عشاءه عند فطره على من آمن به ، فان وجده محتاجا به آثره به (٣) ، وقيل : كان قائلا الحمد لله إذا أكل وشرب أو قام وقعد وذهب (٤).
(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤))
(وَقَضَيْنا) أي بينا بالوحي وأعلمنا (٥) بالوحي وأنهينا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) أي في التورية أو في اللوح المحفوظ أو (إِلى) بمعنى على ، أي قضينا عليهم حكما مقطوعا (لَتُفْسِدُنَّ) أي والله لتعصن (٦)(فِي الْأَرْضِ) أي في أرض (٧) الشام وبيت المقدس (مَرَّتَيْنِ) نصب على المصدر من غير لفظ الفعل ، أي إفسادين في المرة الأولى قتلهم النبي عليهالسلام شعياء ، وقيل : «هو مخالفتهم أحكام التورية وارتكابهم المحارم» (٨) ، والإفساد في المرة الثانية قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم (وَلَتَعْلُنَّ) أي ولتعظمن (عُلُوًّا كَبِيراً) [٤] أي تعظما شديدا ، والعلو العتو بالقهر الشديد والظلم العظيم.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥))
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي موعود أولى المرتين وهو عقابها (بَعَثْنا) أي سلطنا (عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي عبيدنا ومماليكنا وأكثر ما يقال عباد الله وعبيد الناس (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي ذوي بطش قوي في الحرب ، وهم العمالقة أو سنحاريب الملك من أرض نينوى ، والأظهر عن الأكثر بختنصر ملك ببال ولاية نمرود (فَجاسُوا) أي داروا يطلبونكم ، من جاس الشيء إذا طلبه بالاستقصاء (خِلالَ الدِّيارِ) أي وسطها ووسط الأزقة للقتل والأسر والإفساد (وَكانَ) مجيء العقاب لهم (وَعْداً مَفْعُولاً) [٥] أي مقدرا في اللوح المحفوظ لا محالة من أن يفعل بهم ذلك.
قال محمد بن إسحاق : كان أول ما نزل بني إسرائيل بسبب ذنوبهم هو أن الله كان إذا ملك ملكا عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده وكان لهم بعد موسى عليهالسلام ملك صالح يعبد ربه ويعدل بين الناس ، وبعث معه شعياء بن أصفياء قبل بعثة زكريا ويحيى وعيسى ، وشعيا هو الذي بشر بمجيء عيسى ومحمد عليهماالسلام ،
__________________
(١) «ألا تتخذوا» : قرأ أبو عمرو بياء الغيبة وغيره بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ١٨٤.
(٢) التخويف ، س م : التخفيف ، ب.
(٣) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٧٠.
(٤) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٥٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٦٩.
(٥) وأعلمنا ، م : وأنهينا ، ب س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٦٠.
(٦) لتعصن ، ب س : لتعصين ، م.
(٧) أي في أرض ، س : أي أرض ، ب م.
(٨) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٨٣.