يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم ، وانه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات ، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق ، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم ، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون ، وعن سبيل الله يصدون وعن الحق ينصرفون. فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا ، وكل آية اكبر من التي تتلوها ؛ لأن التوكيد أبلغ مما قبله.
(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصا ولا عيبا ؛ لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة ، ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه ، وضراعتهم لديه ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).
ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه ، وعظمة بلده وحسنها ، وتخرق الأنهار فيها ، وهي الخلجانات التي يكسرونها ايام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته ، وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليهالسلام ، ويزدريه بكونه «لا يكاد يبين» يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة ، التي هي شرف له وكمال وجمال ، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه ، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه.
وتنقصه فرعون ـ لعنه الله ـ بكونه لا أساور في يديه ، ولا زينة عليه! وإنما ذلك من حلية النساء ، لا يليق بشهامة الرجال ، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا ، وأتم معرفة ، وأعلى همة وأزهد في الدنيا ، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى؟
قوله : (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) لا يحتاج الأمر إلى ذلك ؛ فإن كان المراد أن تعظمه الملائكة فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليهالسلام بكثير ؛ كما جاء في الحديث : «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع» فكيف يكون تواضعهم ـ وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم!
وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الألباب ، ولمن قصد إلى الحق والصواب ، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج والواضحات من نظر إلى القشور ، وترك لب اللباب ، وطبع على قلبه رب الأرباب ، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب ، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب.
* * *
قال الله تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية ، لعنه الله وقبحهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ* فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي بالغرق والإهانة وسلب العز ، والتبدّل بالذل وبالعذاب بعد النعمة ، والهوان بعد الرفاهية ، والنار بعد طيب العيش ، عياذا بالله العظيم ، وسلطانه القديم من ذلك.