هذا هو إسلامنا التقليدى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذى يرتاب فيه الباحث الغربى الحديث.
ويبدو أن «واط» لم يستطع أن يفرق بين الارتياب والرفض والإنكار ، فللباحث أن يرتاب فيما يدعيه خصمه إلى أن يثبت لنفسه أو لخصمه فإن كان لخصمه قبله حتى لو كان فيه تأييدا لما كان ينكره من قبل ، وإن كان له عده تأييدا لدعواه.
غير أن حاصل كلام «واط» الرفض والإنكار دون إبداء الأسباب أو الأدلة ، فقد سارع ـ دون مناقشة ـ إلى إصدار حكمه ، كشفا عن خبيئة نفسه ، فيقول : «وبالعكس لقد كان كثير من المكيين يقرءون ويكتبون ، ولذلك يفترض أن تاجرا ناجحا كمحمد لا بد أن يكون قد عرف شيئا من هذه الفنون». لم يف «واط» بما قاله في مقدمة كتابه «محمد في مكة» من أنه لن يقول شيئا يمس دين المسلمين ولا يجرح مشاعرهم ، لقد أساء المستشرق إلى ديننا ، وإلى مشاعرنا. لقد أراد هدم القرآن ، فى سبيل تأييد موقف اتخذه مسبقا. وفيه ، وفي أمثاله يصدق قول الدكتور (سنوك هير غونجة) : «إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضى عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأى سابق» (١).
وإذا كان قد كان قد افترض أن تاجرا ناجحا كمحمد «صلىاللهعليهوسلم» قد تعلم شيئا من الفنون والعلوم التى كانت تدرس في مكة وما حولها! فلما ذا لم يدلل على صحة فرضه هذا؟
من جهة أخرى : هل البحث العلمى الأصيل ، أو الفرض العلمى الجاد يحتمل مثل هذا التأكيد الذى أطلقه (واط) ، (لا بد)؟ أم أنها كما قلنا نتيجة معدة سلفا؟ وإذا كان القسيس «واط» أكد أن محمدا «صلىاللهعليهوسلم» كان قارئا كاتبا ، فإن مستشرقا آخر يرى غير ذلك ويدفع فرية «واط» ، يقول «ول ديورانت» «إن أحدا لم يعن بتعليم محمد «صلىاللهعليهوسلم» القراءة والكتابة .. ولم يعرف عنه أنه كتب بنفسه ... ولكن هذا لم يحل بينه وبين قدرته على تعرف شئون الناس تعرفا قلّما يصل إليه أرقى الناس تعلما» (٢).
وقد عقد «توماس كارليل» فصلا رائعا عن النبى «صلىاللهعليهوسلم» ، تكلم فيه ـ فيما تكلم ـ عن أميته ، فقال : «إن محمدا لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا ... ويظهر لى أن الحقيقة هى أن محمدا «صلىاللهعليهوسلم» لم يكن يعرف الخط والقراءة» (٣).
__________________
١ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ص ٢٣ دار الثقافة. الدوحة ١٤١٠ ه ـ ١٩٨٩ م.
٢ ـ ديورانت : قصة الحضارة ج ١٣ ص ٢١ ، ٢٢ ترجمة محمد بدران وآخرين لجنة التأليف والترجمة القاهرة ط ٢.
٣ ـ توماس كارليل : الأبطال. ترجمة محمد السباعى ص ٥ الدار القومية. القاهرة (ب. ت).