متى كان يجتمع منه هذه الكثرة ، وفي كم من سنة كان يرتفع فاستدلّ بذلك على القدرة الّتي لا يؤودها شيء ويكثر عليها .
تأمّل خلق السمك ومشاكلته للأمر الّذي قدّر أن يكون عليه فإنّه خلق غير ذي قوائم لأنّه لا يحتاج إلى المشي إذا كان مسكنه الماء ، وخلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفّس وهو منغمس في اللّجّة ، وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملّاح بالمجاذيف من جانبي السفينة ، وكسي جسمه قشوراً متاناً متداخلة كتداخل الدروع والجواشن لتقيه من الآفات فاُعين بفضل حسّ في الشمّ لأنّ بصره ضعيف والماء يحجبه ، فصار يشمّ الطعم من البعد البعيد فينتجعه ، وإلّا فكيف يعلم به وبموضعه ؟ واعلم أنّ من فيه إلى صماخيه منافذ فهو يعبّ الماء بفيه (١) ويرسله من صماخيه (٢) فتروّح إلى ذلك كما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسُّم هذا النسيم .
فكّر الآن في كثرة نسله وما خصّ به من ذلك فإنّك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة ، والعلّة في ذلك أن يتّسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان فإنّ أكثرها يأكل السمك حتّى أنَّ السباع أيضاً في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضاً كي ترصد السمك فإذا مرَّ بها خطفته فلمّا كانت السباع تأكل السمك والطير يأكل السمك والناس يأكلون السمك والسمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة .
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ، ودوابّ الماء والأصداف ، والأصناف الّتي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلّا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ؛ مثل القرمز فإنّه إنّما عرف الناس صبغه بأنَّ كلبة تجول على شاطىء البحر فوجدت شيئاً من الصنف الّذي يسمّى الحلزون فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتّخذوه صبغاً ، وأشباه هذا ممّا يقف الناس عليه حالاً بعد حال وزماناً بعد زمان .
________________________
(١) أي شربه أو كرعه بلا تنفس .
(٢) الصمخ : خرق الاذن الباطن الماضي إلى الرأس .