حواسّه دلّت عليه في اليقظة . قلت : ما زدت على أن قوّيت مقالتي ، وزعمت أنَّ القلب يعقل الأشياء ويعرفها بعد ذهاب الحواسّ وموتها فكيف أنكرت أنَّ القلب يعرف الأشياء وهو يقظان مجتمعة له حواسّه ، وما الّذي عرّفه إيّاها بعد موت الحواسّ وهو لا يسمع ولا يبصر ؟ ولكنت حقيقاً أن لا تنكر له المعرفة وحواسّه حيّة مجتمعة إذا أقررت أنَّه ينظر إلى الامرأة بعد ذهاب حواسّه حتّى نكحها وأصاب لذَّته منها ؛ فينبغي لمن يعقل حيث وصف القلب بما وصفه به من معرفته بالأشياء والحواسُّ ذاهبة أن يعرف أنَّ القلب مدبّر الحواسّ ومالكها ورائسها (١) والقاضي عليها ، فإنّه ما جهل الإنسان من شيء فما يجهل أنّ اليد لا تقدر على العين أن تقلعها ، ولا على اللّسان أن تقطعه ، وأنّه ليس يقدر شيء من الحواسّ أن يفعل بشيء من الجسد شيئاً بغير إذن القلب ودلالته و تدبيره لأنَّ الله تبارك وتعالى جعل القلب مدبّراً للجسد ، به يسمع وبه يبصر وهو القاضي والأمير عليه ؛ لا يتقدّم الجسد إن هو تأخّر ، ولا يتأخّر إن هو تقدّم ، وبه سمعت الحواسّ وأبصرت ، إن أمرها ائتمرت ، وإن نهاها انتهت ، وبه ينزل الفرح والحزن ، وبه ينزل الألم ، إن فسد شيء من الحواسّ بقي على حاله ، وإن فسد القلب ذهب جميعاً حتّى لا يسمع ولا يبصر .
قال : لقد كنت أظنّك لا تتخلّص من هذه المسألة وقد جئت بشيء لا أقدر على ردّه قلت : وأنا اُعطيك تصاديق ما أنبأتك به وما رأيت في منامك في مجلسك الساعة . قال : افعل فإنّي قد تحيّرت في هذه المسألة . قلت : أخبرني هل تحدّث نفسك من تجارة أو صناعة أو بناء أو تقدير شيء وتأمر به إذا أحكمت تقديره في ظنّك ؟ قال : نعم . قلت : فهل أشركت قلبك في ذلك الفكر شيئاً من حواسّك ؟ قال : لا . قلت : أفلا تعلم أنَّ الّذي أخبرك به قلبك حقٌّ ؟ قال : اليقين هو ؛ فزدني ما يذهب الشكّ عنّي ويزيل الشبه من قلبي .
شرح : خفق القلب : اضطرابه . والنهمة : بلوغ الهمّة في الشيء ، والنهم بالتحريك إفراط الشهوة في الطعام . أقول : قد عرفت أنَّ القلب يطلق في مصطلح الأخبار على النفس الناطقةَ ، ولمّا كان السائل منكراً لإدراك ما سوى الحواسّ الظاهرة نبّهه عليهالسلام على خطائه بمدركات الحواسّ الباطنة الّتي هي آلات النفس .
________________________
(١) الرائس : الوالي ، في مقابلة المرؤوس للمستولي عليه .