وتشرب حتّى وصلت لذَّة ذلك إلى قلبك ؟ قال : نعم . قلت : فهل رأيت أنّك تضحك وتبكي وتجول في البلدان الّتي لم ترها والّتي قد رأيتها حتّى تعلم معالم ما رأيت منها ؟ قال : نعم ما لا اُحصي . قلت : هل رأيت أحداً من أقاربك من أخ أو أب أو ذي رحم قد مات قبل ذلك حتّى تعلمه وتعرفه كمعرفتك إيّاه قبل أن يموت ؟ قال : أكثر من الكثير . قلت : فأخبرني أيّ حواسّك أدرك هذه الأشياء في منامك حتّى دلّت قلبك على معاينة الموتى وكلامهم ، وأكل طعامهم ، والجولان في البلدان ، والضحك والبكاء وغير ذلك ؟ قال : ما أقدر أن أقول لك أيّ حواسّي أدرك ذلك أو شيئاً منه ، وكيف تدرك وهي بمنزلة الميّت لا تسمع ولا تبصر ؟ قلت : فأخبرني حيث استيقظت ألست قد ذكرت الّذي رأيت في منامك تحفظه وتقصّه بعد يقظتك على إخوانك لا تنسى منه حرفاً ؟ قال : إنّه كما تقول وربّما رأيت الشيء في منامي ثمَّ لا أمسي حتّى أراه في يقظتي كما رأيته في منامي . قلت : فأخبرني أيّ حواسّك قرّرت علم ذلك في قلبك حتّى ذكّرته بعد ما استيقظت ؟ قال : إنَّ هذا الأمر ما دخلت فيه الحواسّ . قلت : أفليس ينبغي لك أن تعلم حيث بطلت الحواسّ في هذا أنَّ الّذي عاين تلك الأشياء وحفظها في منامك قلبك الّذي جعل الله فيه العقل الّذي احتجّ به على العباد ؟ قال : إنَّ الّذي رأيت في منامي ليس بشيء إنّما هو بمنزلة السراب الّذي يعاينه صاحبه وينظر إليه لا يشكُّ فيه أنّه ماء فإذا انتهى إلى مكانه لم يجده شيئاً فما رأيت في منامي فبهذه المنزلة ! .
قلت : كيف شبّهت السراب بما رأيت في منامك من أكلك الطعام الحلو والحامض ، وما رأيت من الفرح والحزن ؟ قال : لأنَّ السراب حيث انتهيت إلى موضعه صار لا شيء ، وكذلك صار ما رأيت في منامي حين انتبهت ! قلت : فأخبرني إن أتيتك بأمر وجدت لذَّته في منامك وخفق لذلك قلبك ألست تعلم أنَّ الأمر على ما وصفت لك ؟ قال : بلى .
قلت : فأخبرني هل احتلمت قطّ حتّى قضيت في امرأة نهمتك (١) عرفتها أم لم تعرفها ؟ قال : بلى ما لا اُحصيه . قلت : ألست وجدت لذلك لذَّةً على قدر لذَّتك في يقظتك فتنتبه وقد أنزلت الشهوة حتّى تخرج منك بقدر ما تخرج منك في اليقظة ، هذا كسر لحجّتك في السراب . قال : ما يرى المحتلم في منامه شيئاً إلّا ما كانت
________________________
(١) قضى منه نهمته أي شهوته .