ودبّرا العالم من أنفسهما ، فإن كان ذلك كذلك فمن أين جاء الموت والفنا ، وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميّت مع الأزليّ القديم والميّت لا يجيىء منه حيٌّ . (١) هذه مقالة الديصانيّة أشدّ الزنادقة قولاً وأهملهم مثلاً ، نظروا في كتب قد صنّفتها أوائلهم ، وحبروها (٢) لهم بألفاظ مزخزفة من غير أصل ثابت ، ولا حجّة توجب إثبات ما ادّعوا ، كلُّ ذلك خلافاً على الله وعلى رسله ؛ وتكذيباً بما جاؤوا به عن الله .
فأمّا من زعم أنّ الأبدان ظلمة والأرواح نور وأنّ النور لا يعمل الشرّ والظلمة لا تعمل الخير فلا يجب عليهم أن يلوموا أحداً على معصيته ، ولا ركوب حرمة ، ولا إتيان فاحشة ، وأنّ ذلك على الظلمة غير مستنكر لأنّ ذلك فعلها ، ولا له أن يدعو ربّاً ، ولا يتضرّع إليه ، لأنَّ النور ربٌّ ، والربّ لا يتضرّع إلى نفسه ، ولا يستعيذ بغيره ، ولا لأحد من أهل هذه المقالة أن يقول : أحسنت وأسأت ، لأنّ الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها ، والإحسان من النور ، ولا يقول النور لنفسه : أحسنت يا محسن ، وليس هناك ثالث ، فكانت الظلمة على قياس قولهم أحكم فعلاً وأتقن تدبيراً وأعزّ أركاناً من النور لأنّ الأبدان محكمة فمن صوّر هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة ، وكلّ شيء يرى ظاهراً من الظهر والأشجار والثمار والطير والدوابّ يجب أن يكون إلهاً ثمّ حبست النور في حبسها والدولة لها ، وما ادّعوا بأنّ العاقبة سوف تكون للنور فدعوىً ، وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل لأنّه أسير ، وليس له سلطان فلا فعل له ولا تدبير ، وإن كان له مع الظلمة تدبير فما هو بأسير بل هو مطلق عزيز فإن لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة فإنّه يظهر في هذا العالم إحسان وخير مع فساد وشرّ ، فهذا يدلّ على أنَّ الظلمة تحسن الخير وتفعله كما تحسن الشرّ وتفعله ، فإن قالوا : محال ذلك فلا نور يثبت ولا ظلمة ، وبطلت دعواهم ويرجع الأمر إلى أنَّ الله واحد وما سواه باطل فهذه مقالة « ماني » الزنديق وأصحابه .
وأمّا من قال : النور والظلمة بينهما حَكم فلا بدّ من أن يكون أكبر الثلاثة
________________________
(١) وفي نسخة : والميت لا يحيى منه حي .
(٢) أي زينوها وحسنوها بألفاظ أباطيل مموهة .