واختلفوا في المزاج والخلاص فزعم بعضهم أنَّ النور دخل الظلمة ، والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ فتأذّى بها ، وأحبّ أن يرققها ويليّنها ثمَّ يتخلّص منها ، وليس ذلك لاختلاف جسمها ، ولكن كما أنَّ المنشار جنسه حديد وصفيحته ليّنة وأسنانه خشنة فاللّين في النور والخشونة في الظلمة وهما جنس واحد ، فيلطف النور بلينه حتّى يدخل فيما بين تلك الفرج فما أمكنه إلّا بتلك الخشونة ، فلا يتصوّر الوصول إلى كمال ووجود إلّا بلين وخشونة .
وقال بعضهم : بل الظلام لمّا احتال حتّى تشبّث بالنور من أسفل صفيحته ودرجه فاجتهد النور حتّى يتخلّص منه ويدفعها عن نفسه اعتمد عليه فلجج فيه وذلك بمنزلة الإنسان الّذي يريد الخروج من وحل وقع فيه فيعتمد على رجله ليخرج فيزداد لجوجاً فيه ، فاحتاج النور إلى زمان ليعالج التخلّص منه والتفرّد بعالمه .
وقال بعضهم : إنَّ النور إنّما دخل الظلام اختياراً ليصلحها ويستخرج منه أجزاء صالحة لعالمه ، فلمّا دخل تشبّث به زماناً فصار يفعل الجور والقبيح اضطراراً لا اختياراً ، ولو انفرد في عالمه ما كان يحصل إلّا الخير المحض والحسن البحت ، (١) وفرق بين الفعل الضروريّ وبين الفعل الاختياريّ .
الثاني : مذهب المانويّة أصحاب ماني الحكيم الّذي ظهر في زمان سابور بن أردشير ، وذلك بعد عيسى عليهالسلام أخذ ديناً بين المجوسيّة والنصرانيّة ، وكان يقول بنبوّة المسيح عليهالسلام ، ولا يقول بنبوَّة موسى عليهالسلام . حكى محمّد بن هارون المعروف بأبي عيسى الورّاق أنَّ الحكيم ماني زعم أنَّ العالم مصنوع مركّب من أصلين قديمين : أحدهما نور والآخر ظلمة ، وأنّهما أزليّان لم يزالا ولن يزالا ، وأنكر وجود شيء لا من الأصل قديماً ، وزعم أنّهما لم يزالا قويّين حسّاسين ، سميعين بصيرين ، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادّان ، والخير والشرّ متحاذيان تحاذي الشخص والظلّ ؛ والنور جوهره حسن فاضل كريم صاف نقيّ طيّب الريح حسن المنظر ، ونفسه خيّرة كريمة حليمة نافعة عالمة ، وفعله الخير والصلاح والنفع والسرور والترتيب
________________________
(١) البحت : الصرف الخالص .