ولو لم يكن هواءٌ يؤدّي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت ، فهل يخفى على من صحَّ نظره وأعمل فكره أنَّ مثل هذا الّذي وصفت من تهيئة الحواسّ والمحسوسات بعضها يلقي بعضاً وتهيئة أشياء آخر بها تتمُّ الحواسُّ لا يكون إلّا بعمد وتقدير من لطيف خبير ؟ .
بيان : قوله عليهالسلام : بعضها يلقي بعضاً حال أو صفة بتأويل أو تقدير .
فكّر يا مفضّل فيمن عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في اُموره ، فإنّه لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه ، فلا يفرق بين الألوان ، وبين المنظر الحسن والقبيح ، ولا يرى حفرةً إن هجم عليها (١) ولا عدوّاً إن أهوى إليه بسيف ، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئاً من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة حتّى أنّه لولا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى ؛ وكذلك من عدم السمع يختلُّ في اُمور كثيرة فإنّه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ، ويعدم لذَّة الأصوات واللّحون بالشجيّة المطربة ، ويعظم المؤونة على الناس في محاورته ، حتّى يتبرّموا به (٢) ولا يسمع شيئاً من أخبار الناس وأحاديثهم ، حتّى يكون كالغائب وهو شاهد ، أو كالميّت وهو حيٌّ ؛ فأمّا من عدم العقل فإنّه يحق بمنزلة البهائم بل يجهل كثيراً ممّا يهتدي إليه البهائم ، أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل وسائر الخلال (٣) الّتي بها صلاح الإنسان والّتي لو فقد منها شيئاً لعظم ما يناله في ذلك من الخلل يوافي خلقة على التمام حتّى لا يفقد شيئاً منها ، فلمَ كان كذلك إلّا لأنّه خلق بعلم وتقدير ؟ . (٤)
بيان : روح المخاطبة بالفتح أي راحتها ولذّتها . والشجو : الحزن . ولا يتوهّم جواز الاستدلال به على عدم حرمة الغناء مطلقاً لاحتمال أن يكون المراد الأفراد المحلّلة منها كما ذكرها الأصحاب ، وسيأتي ذكرها في بابه ، أو يكون فائدة إدراك تلك اللّذّة عظم الثواب في تركها لوجهه تعالى . وقوله عليهالسلام : يوافي خلقة ، خبر صارت .
قال المفضّل : فقلت : فلمَ صار بعض الناس يفقد شيئاً من هذه الجوارح فيناله في
________________________
(١) أي انتهى إليها بغتة على غفلة منه .
(٢) أي حتى يملّوا ويضجروا به .
(٣) جمع الخلة وهي الخصلة .
(٤) وفي نسخة : إلا لانه خلق بعلم وبقدر .