والأسنان الّتي تصوغ الصوت حروفاً ونغماً كالأصابع الّتي يختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحاناً ، غير أنّه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإنَّ المزمار بالحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت .
قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف ؛ وفيها مع الّذي ذكرت لك مآرب اُخرى ، فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرية فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الّذي لو احتبس (١) شيئاً يسيراً لهلك الإنسان ، و باللّسان تذاق الطعوم فيميَّز بينها ويعرف كلُّ واحد منها حلوها من مرِّها ، وحامضها من مزِّها ، ومالحها من عذبها ، وطيبها من خبيثها ، وفيه مع ذلك معونةٌ على إساغة الطعام والشراب ، والأسنان تمضغ الطعام حتّى تلين ويسهل إساغته ، وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم ، (٢) واعتبر ذلك بأنّك ترى من سقطت أسنانه مسترخى الشفة ومضطربها ، وبالشفتين يترشَّف الشراب (٣) حتّى يكون الّذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر لا يثجُّ ثجّاً فيغصَّ به الشارب أو ينكا في الجوف ، ثمَّ هما بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحهما الإنسان إذا شاء ، ويطبقهما إذا شاء ، ففيما وصفنا من هذا بيان أنَّ كلَّ واحد من هذه الأعضاء يتصرَّف وينقسم إلى وجوه من المنافع ، كما تتصرَّف الأداة الواحدة في أعمال شتّى ، وذلك كالفاس (٤) يستعمل في النجارة (٥) والحفر وغيرهما من الأعمال ، ولو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لفَّ بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض وتمسّكه فلا يضطرب ، ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما يفتّه هدّ الصدمة والصكّة (٦) الّتي ربّما وقعت في الرأس ، ثمَّ قد جلّلت الجمجمة بالشعر حتّى صار بمنزلة الفرو للرأس (٧) يستره من شدَّة الحرّ
________________________
(١) وفي نسخة : لو حبس .
(٢) دعم الشيء : أسنده لئلا يميل .
(٣) رشّف الماء أي بالغ في مصّه .
(٤) الفاس : آلة لقطع الخشب وغيره .
(٥) وزان الكتابة : حرفة النجار .
(٦) الصكة : الضرب الشديد أو اللطم .
(٧) الفرو : شيء كالجبة يبطّن من جلود بعض الحيوانات كالارانب والسمور .