فالجوع يقتضي الطعم الّذي به حياة البدن وقوامه ، والكرى تقتضي النوم الّذي فيه راحة البدن وإجمام قواه ، والشبق يقتضي الجماع الّذي فيه دوام النسل وبقاؤه ، ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطرُّه إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقّل والكسل حتّى ينحلَّ بدنه فيهلك ، كما يحتاج الواحد إلى الدواء بشيء ممّا يصلح ببدنه فيدافع به حتّى يؤدّيه ذلك إلى المرض والموت ، وكذلك لو كان إنّما يصير إلى النوم بالتفكّر في حاجته إلى راحة البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدمغه حتّى ينهك بدنه ، ولو كان إنّما يتحرّك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتّى يقلَّ النسل أو ينقطع ، فإنَّ من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به ، فانظر كيف جعل لكلّ واحد من هذه الأفعال الّتي بها قوام الإنسان وصلاحه محرّك من نفس الطبع يحرّكه لذلك ويحدوه عليه (١) واعلم أنَّ في الإنسان قوىً أربعاً : قوَّة جاذبةٌ تقبل الغذاء وتورده على المعدة ، وقوَّة ممسكة تحبس الطعام حتّى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، وقوَّة هاضمة وهي الّتي تطبخه (٢) وتستخرج صفوه وتبثّه في البدن ، وقوّة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ، تفكّر في تقدير هذه القوى الأربعة الّتي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والإرب فيها ، وما في ذلك من التدبير والحكمة ، و لولا الجاذبة كيف يتحرّك الإنسان لطلب الغذاء الّتي بها قوام البدن ؟ ولولا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتّى تهضمه المعدة ؟ ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتّى يخلص منه الصفو الّذي يغذوا البدن ويسدُّ خلله ؟ ولولا الدافعة كيف كان الثفل الّذي تخلّفه الهاضمة يندفع ويخرج أوّلاً فأوّلاً ؟ أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطيف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن والقيام بما فيه صلاحه ؟ وساُمثّل لك في ذلك مثالاً : إنَّ البدن بمنزلة دار الملك ، وله فيها حشم وصبيّة وقوّام موكّلون بالدار ، فواحد لإقضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج
________________________
(١) أي يبعثه ويسوقه إليه .
(٢) وفي نسخة : وهي التي تطحنه .