لما يثبت على الأرض كما لا يثبت السرير وما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره ، وينقل الاُخريين أيضاً من خلاف فيثبت على الأرض ولا يسقط إذا مشى .
أما ترى الحمار كيف يذلُّ للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعاً منعماً ، والبعير لا يطيقه عدّة رجال لو استعصى ، كيف كان ينقاد للصبيّ ؟ والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتّى يضع النير على عنقه ويحرث به ؟ والفرس الكريم يركب السيوف والأسنّة بالمواتاة لفارسه ، والقطيع من الغنم يرعاه رجل واحد ولو تفرّقت الغنم فأخذ كلّ واحد منها في ناحية لم يلحقها ، وكذلك جميع الأصناف مسخّرة للإنسان فبمَ كانت كذلك ؟ إلّا بأنّها عدمت العقل والرويّة فإنّها لو كانت تعقل وتروّى في الاُمور (١) كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه ، حتّى يمتنع الجمل على قائده ، والثور على صاحبه ، وتتفرّق الغنم عن راعيها ، وأشباه هذا من الاُمور ، و كذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل ورويّة فتوازرت على الناس كانت خليقةً أن تجتاحهم (٢) فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمورة والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس ؟ أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ثمّ لا تظهر ولا تنشر لطلب قوتها إلّا باللّيل ؟ فهي مع صولتها كالخائف للإنس بل مقموعة ممنوعة منهم ، ولولا ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيّعت عليهم (٣) ثمَّ جعل في الكلب من بين هذه السباع عطفٌ على مالكه ومحاماةٌ عنه و حفاظٌ له فهو ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة اللّيل لحراسة منزل صاحبه ، وذبِّ الدغار عنه (٤) ويبلغ من محبّته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله ، ويألفه غاية الاُلف حتّى يصبر معه على الجوع والجفوة فلم طبع الكلب على هذا
________________________
(١) أي نظر في الامور وتفكر فيها .
(٢) أي تستأصلهم وتهلكهم .
(٣) وفي نسخة : وضيقت عليهم .
(٤) وفي نسخة : وذب الذعار عنه .