بما كانت تعبد وبقيتم ، فلا يكلمه يومئذ إلا نبيّا فيقول : فارقنا الناس في الدنيا ، ونحن كنا إلى صحبتهم أحوج ، لحقت كل أمة بما كانت تعبد ، ونحن ننتظر ربنا الذي كنّا نعبد ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيقول : هل بينكم وبين الله عزّ وجل من آية تعرفونها؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق (٣) فيخرّون سجّدا أجمعين ، ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا سمعة ولا رياء ولا نفاقا إلا عاد ظهره طبقا واحدا ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ، ثم يرفع برّنا ومسيئنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة (٤) فيقول : أنا ربكم.
__________________
وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة ، فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية.
وقال : فإن هذا الموضع يحتاج الكلام فيه إلى تأويل وتخريج ، وليس ذلك من أجل أننا ننكر رؤية الله سبحانه ، بل نثبتها ، ولا من أجل أنا نرفع ما جاء في الكتاب وفي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المجيء والإتيان ، غير أنّا لا نكيّف ذلك ولا نجعله حركة وانتقالا كمجيء الأشخاص وإتيانها ، فإن ذلك من نعوت الحدث ، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وقال النووي ( ٣ / ١٩ ) : اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين : أحدهما : وهو مذهب معظم السلف أو كلهم ، أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون : يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته ، مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزّه عن التجسّم ، والانتقال والتحيّز في جهة وعن سائر صفات المخلوق ، وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محقّقيهم وهو أسلم.
والقول الثاني : وهو مذهب معظم المتكلمين : أنها تتأوّل على ما يليق بها على حسب مواقعها ، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله ، بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ، ذا رياضة في العلم ، فعلى هذا المذهب يقال في قوله صلى الله عليه وسلم : « فيأتيهم الله » أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه ، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان ، فعبّر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازا.
وقيل : المراد بيأتيهم الله : أي يأتيهم بعض ملائكة الله ، قال القاضي عياض رحمهالله : هذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال : ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق ، فإذا قال لهم هذا الملك : أنا ربّكم ، رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم ، ويستعيذون بالله منه.
(٣) قال النووي ( ٣ / ٢٧ ) وفسّر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا بالشدّة ، أي يكشف عن شدّة وأمر مهول ، وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر ، ولهذا يقولون : قامت الحرب على ساق ، وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد شمّر ساعده ، وكشف عن ساقه للاهتمام به. وقيل : معناه : كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم ، وما كان غلب على قلوبهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك.
(٤) قال النووي ( ٣ / ٢٠ ) المراد بالصورة هنا الصفة ، ومعناه ؛ فيتجلى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي