فإذا قامت الأمارة على نفي التكليف في هذا الطرف كان لازمها أنّه في الطرف الآخر وهذا اللازم حجّة ، ونتيجتها أنّ المعلوم بالإجمال في تلك الأطراف وما اشتغلت به الذمّة هناك وليس هنا ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة في تلك الأطراف فقط ؛ لأنّ الطرف الذي قامت عليه الأمارة قد خرج عن دائرة المعلوم بالإجمال تعبّدا.
والتحقيق : أنّ قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما ، إلا أنّ هذا مجرّد اختلاف في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ؛ لأنّ كلاّ منهما نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزوميّة عند الاختلاط في مقام الحفظ ، غير أنّ هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص ، وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة وافتراضها موافقة كاملة.
فلا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون الآخر.
والتحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز وبين الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من حيث المنشأ والملاك ، وإن كانت مختلفة في اللسان والصياغة.
وتوضيح ذلك : إنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع لعلاج حالة الشكّ والاشتباه واختلاط الملاكات الواقعيّة وعدم تمييزها ، وقلنا هناك : إنّ هذه الأحكام في عالم الجعل والثبوت لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة ؛ لأنّ الشارع تارة يلحظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة أهميّتهما معا.
فالأوّل هو الأصول المحضة كالبراءة والاحتياط ، والثاني هو الأمارات كالبيّنة وحجّيّة الظهور وخبر الثقة ، والثالث كالاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز.
إلا أنّه مع ذلك يتّفق الجميع في كونها أحكاما ظاهريّة مجعولة لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، سواء كان هذا الإبراز بلسان إبراز أهمّيّة المحتمل أو بلحاظ أهمّيّة الاحتمال أو بلحاظهما معا ، فإنّ اللحاظ مختلف إلا أنّ الملحوظ واحد ، إذ النتيجة العمليّة هي إمّا الترخيص وإطلاق العنان فيما إذا كانت ملاكات الترخيص والإباحة الواقعيّة هي الأهمّ ، وإمّا الإلزام والتجنّب والاحتياط إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ.
وحينئذ نقول : إنّ اللسان وإن كان مختلفا بين البراءة والفراغ حيث إنّ الأولى