والسؤال هنا هو : هل هذا العلم الإجمالي الدائر بين الوجوب والحرمة منجّز أو لا؟
والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا لشيء من هذين الطرفين. والوجه في ذلك : أمّا تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة ـ سواء على مسلك الاقتضاء أم على مسلك العلّيّة ـ فهو غير ممكن ؛ إذ لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة معا على شيء واحد ، ولذلك تكون الموافقة القطعيّة خارجة عن قدرة المكلّف تكوينا وواقعا ؛ لأنّ المكلّف غير قادر تكوينا على الجمع بين الضدّين وهما هنا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة متضادّة فيما بينها بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال والمتطلّبات.
وأمّا تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة على المسلكين فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة يستحيل صدورها ووقوعها في الخارج ؛ لأنّ المكلّف تكوينا أمام هذه الواقعة المشكوكة إمّا أن يفعل أو يترك ، والجمع بين الفعل والترك مستحيل ، وارتفاع الفعل والترك مستحيل وممتنع أيضا ، ولذلك لا تتصوّر المخالفة القطعيّة أصلا لكي يمنع عنها بالعلم الإجمالي ، أي أنّ عدم المخالفة ثابت في الواقع فلا معنى للنهي عن المخالفة شرعا ما دامت لن تتحقّق تكوينا.
وأمّا تنجيزه لأحد التكليفين بعينه دون الآخر فهو غير معقول أيضا ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إلى التكليفين المشكوكين على حدّ واحد ، فيكون ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح ، وهو ممتنع عقلا ، فلا يصدر من الشارع.
وبهذا يثبت لنا بالبرهان أنّ العلم الإجمالي في هذه الصورة ساقط عن المنجّزيّة (١).
ولكن هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة أو لا؟
سؤال اختلف الأصوليّون في الإجابة عليه.
__________________
(١) وينبغي أن يعلم أنّ فرض الدوران بين المحذورين تارة يكون بين الوجوب والحرمة ، كتكليفين عباديّين يشترط فيهما قصد القربة وامتثال الأمر ، وأخرى يكونان توصّليّين ، وثالثة يكون أحدهما توصّليّا والآخر تعبّديّا.
ومحلّ بحثنا هنا الوجوب والحرمة التوصّليّان فقط ، كما إذا حلف على شيء فعلا أو تركا كالسفر ، وأمّا إذا كانا تعبّديّين أو أحدهما فحينئذ تكون المخالفة القطعيّة ممكنة ، بأن لا ينوي القربة في هذا ويأتي بذاك أو لا ينوي القربة فيهما ويقوم بهما معا.