وتحصيلا للحاصل ، ولذلك لا تجري البراءة في المكروهات والمستحبّات ؛ إذ لا إلزام ولا عقاب فيهما ليؤمّن عنهما.
وبهذا يظهر أنّه لا معنى محصّل لإجراء براءة ثانية ، بل تكفي البراءة الأولى.
والجواب على ذلك : أنّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء ، واحتمال تكليف واقعي واصل إلى مرتبة من الاهتمام المولوي التي تعبّر عنها الحجّيّة المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأوّل لا يلازم التأمين عن الثاني.
ألا ترى أنّ بإمكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما احتملت تكليفا وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعة منه ، وكلّما احتملت تكليفا واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه.
والجواب على هذا الاعتراض أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة تختلف عن البراءة الأولى التي تجري عن الحكم الواقعي المشكوك ، ووجه الاختلاف بينهما هو الاختلاف في التأمين عن الاحتمال المنجّز.
وتوضيحه : أنّ البراءة الأولى تجري لنفي التكليف المشكوك والتأمين عنه عند احتماله ، بينما البراءة الثانية تنفي المنجّز عن هذا التكليف ، فيوجد احتمالان :
أحدهما : احتمال التكليف الواقعي بذاته ، والآخر : احتمال قيام الحجّة والمنجّز على هذا التكليف ؛ والثاني يعني أنّه إذا ثبتت الحجّيّة وتمّت المنجّزيّة فهذا يعني الكشف عن اهتمام المولى بملاكات الإلزام ، ولذلك أصدر إلزاما ظاهريّا للحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة.
وحينئذ نقول : إنّ الاحتمال الأوّل على فرض ثبوته فهو يثبت الحكم الواقعي ابتداء ، فتكون المنجّزيّة لذات التكليف والبراءة الجارية هنا تؤمّن المكلّف من هذه الناحية.
بينما الاحتمال الثاني على فرض ثبوته فهو يثبت الحجّة والمنجّز الشرعي الظاهري ، والذي يعني أنّ ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظر المولى من غيرها ، فالمنجّزيّة هنا لأجل هذا الأمر ، والبراءة عند ما يراد إجراؤها هنا تؤمّن عن المنجّزيّة وعن التكليف بهذا المعنى ، أي أنّ المولى لا يهتمّ باحتمال التكليف ، وإنّما المهمّ بنظره ملاكات الترخيص والتسهيل.