ولهذا كان للبراءة الثانية فائدة سواء جرت البراءة الأولى أم لا ، وليست لغوا وتحصيلا للحاصل أو لا أثر لها ، بل تفيد شيئا جديدا لم يكن موجودا حين إجراء البراءة الأولى ، وهو التأمين لنفي الاهتمام المولوي بملاكات الإلزام ، فالتأمين الثاني ليس نفس الأوّل ، والتأمين الأوّل لا يلزم منه حصول التأمين الثاني.
ومن هنا نتعقّل أن يقول الشارع : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وعلم بعدم قيام الحجّة الظاهريّة عليه فهو في سعة منه ، بينما يقول في مجال آخر : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وشكّ أو لم يعلم بعدم الحجّة الظاهريّة عليه فاللازم عليه الاحتياط.
وحينئذ فالمراد من إجراء البراءة الثانية التأمين من جهة الاحتياط الذي من الممكن أن يكون ثابتا عند الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة ، بينما البراءة الأولى تفيد التأمين من جهة نفس الحكم الواقعي ، فهناك منجّزيّتان محتملتان إحداهما منجّزيّة الحكم الواقعي والأخرى منجّزيّة الاحتياط الظاهري والبراءة الأولى تجري للتأمين عن المنجّزيّة الأولى ، والبراءة الثانية تجري للتأمين عن المنجّزيّة الثانية ، ولا تلازم بين المنجّزيّتين وليست إحداهما نفس الأخرى كما هو واضح.
ولكنّ التحقيق مع ذلك : أنّ إجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجّيّة المشكوكة ، وذلك بتوضيح ما يلي :
أوّلا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ؛ لأنّ موضوعهما معا الشكّ في الواقع ، خلافا للبراءة عن الحجّيّة المشكوكة فإنّها ليست في درجتها كما عرفت.
والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ البراءة الأولى تغني عن البراءة الثانية ، فإذا جرت البراءة لنفي التكليف الواقعي المشكوك كفى ذلك في إثبات التأمين ونفي المنجّزيّة ، وبالتالي نفي الحجّيّة المشكوكة ، ولا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي الحجّيّة المشكوكة.
والدليل على ذلك يتّضح من مجموع أمور :
الأوّل : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ، فهنا دعويان :