استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فانك مدرك قسمك وآخذ سهمك ، وإن اليسير من الله أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه ، فان نظرت ـ فلله المثل الاعلى ـ فيما تطلب من الملوك ومن دونهم من السفلة لعرفت أن لك في يسير ما تصيب من الملوك افتخارا ، وإن عليك في كثير ما تطلب من الدناة عارا (١) إنك ليس بايعا شيئا من دينك وعرضك بثمن ، والمغبون من غبن نفسه من الله ، فخذ من الدنيا ما آتاك ، وتول عما تولى عنك ، فان أنت لم تفعل فأجمل في الطلب ، وإياك ومقاربة من رهبته على دينك وعرضك ، وباعد السلطان لتأمن من خذع الشيطان وتقول : متى أرى ما أنكر نزعت ، فانه هكذا هلك من كان قبلك ، إن أهل القبلة قد أيقنوا بالمعاد ، فلو سمت بعضهم ببيع آخرته بالدنيا لم تطب بذلك نفسا (٢) وقد يتخيله الشيطان بخدعه ومكره حتى يورطه في هلكة بعرض من الدنيا (٣) يسير حقير وينقله من شئ إلى شئ حتى يؤيسه من رحمة الله ويدخله في القنوط فيجد الراحة إلى ما خالف الاسلام وأحكامه فان نفسك أبت إلا حب الدنيا وقرب السلطان فخالفتك إلى ما نهيتك عنه مما فيه رشدك فأملك عليه لسانك فإنه لا ثقة للملوك عند الغضب ، فلا تسأل عن أخبارهم ولا تنطق بأسرارهم ولا تدخل فيما بينهم.
وفي الصمت السلامة من الندامة ، وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراك فائدة ما فات من منطقك ، وحفظ ما في الوعاه بشد الوكاء ، وحفظ ما في يديك أحب
____________________
(١) الدناءة : جمع دان او الدنى وهو الخسيس.
(٢) أى فلو عرضت البيع من سام السلعة يسوم أى عرضها وذكر ثمنها. والمعنى أنك لو عرضت ببعضهم بأن يبيع آخرته بالدنيا لم ترض بذلك ولم تطب نفسا بهذه التجارة.
(٣) حتى يورطه اى يلقيه في الورطة ويوقعه في المهلكة. « بعرض الدنيا » أى بحطام الدنيا ومتاعها. يعنى أن الشيطان ما زال يسول له بشئ حقير من متاع الدنيا حتى يئس من رحمة الله ويخرجه منها فينجر الامر في متابعته إلى ما خالف الاسلام.