أولئكم سلف غايتكم ، وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز ، وحلبات الفخر ملوكا وسوقا (١) وسلكوا في بطون البرزخ سبيلا ، سلطت الارض عليهم فيه فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون وضمارا لا يوجدون (٢) لا يفزعهم ورود الاهوال ، ولا يحزنهم تنكر الاحوال ، ولا يحفلون بالرواجف ، ولا يأذنون للقواصف (٣) غيبا لا ينتظرون ، وشهودا لا يحضرون وإنما كانوا جميعا فتشتتوا ، والافا فافترقوا (٤) وما عن طول عهدهم ، ولا بعد محلهم عميت أخبارهم ، وصمت ديارهم (٥) ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا (٦) وبالسمع صمما ، وبالحركات سكونا ، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات (٧) جيران لا يتأنسون ، وأحباء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التعارف ، وانقطعت منهم أسباب
____________________
(١) « سلف الغاية » : السابق اليها. والغاية : الحد الذى ينتهى اليه الشئ حسيا أو معنويا. والمراد : الموت. وفرط فلان القوم كنصر أى تقدمهم إلى الورد لاصلاح الحوض والدلاء ، والفرط ـ بالتحريك ـ : المتقدم إلى الماء. والمناهل : مواضع ما تشرب الشاربة من النهر ، وقد تقدم. ومقاوم : جمع مقام. والحلبات جمع حلبة بالفتح و هى الدفعة من الخيل في الرهان ، أوهى الخيل تجتمع للنصرة من كل أوب. والسوق ـ بضم ففتح جمع سوقه بالضم : بمعنى الرعية.
(٢) الفجوة الفرجة والمراد هنا شق القبر. وقوله « ولا ينمون » من النمو وهو الزيادة من الغذاء. والضمار : خلاف العيان الغائب والذى لا يرجى ايابه.
(٣) « لا يحفلون بكسر الفاء : اى لا يبالون. والرواجف جمع راجفة : الزلزلة توجب الاضطرب. والقواصف من قصف الرعد : اشتدت هدهدته. وأذن له : استمع.
(٤) الاف جمع آلاف أى مؤتلف مع غيره.
(٥) صم يصم بالفتح فيها : خرس عن الكلام. وهذه النسبة إلى الديار مجاز.
(٦) المراد من خرس الديار عدم صعود الصوت من سكانها.
(٧) ارتجال الصفة : وصف الحال بلا تأمل فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعوا من السبات ـ بالضم ـ : أى النوم.