هجمت منه على هذا لم أسأل عما سواه ، فلما أن دخل عليه الوزير قال له الملك :
إنك قد عرفت حرصي على الدنيا وطلب الملك وإني ذكرت ما مضى من ذلك فلم أجد معي منه طائلا ، وقد عرفت أن الذى بقي منه كالذي مضى فإنه يوشك أن ينقضي ذلك كله بأجمعه فلا يصير في يدي منه شئ ، وأنا اريد أن أعمل في حال الاخرة عملا قويا على قدر ما كان من عملي في الدنيا وقد بدالي أن الحق بالنساك واخلي هذا العمل لاهله فما رأيك؟ قال : فرق الوزير لذلك رقة شديدة حتى عرف الملك ذلك منه ، ثم قال : أيها الملك إن الباقي وإن كان عزيزا لاهل أن يطلب وإن الفاني وإن استمكنت منه لاهل أن يرفض ونعم الرأي رأيت ، وإني لارجو أن يجمع الله لك مع الدنيا شرف الاخرة ، قال : فكبر ذلك على الملك ووقع منه كل موقع ولم يبدله شيئا غير أن الوزير عرف الثقل في وجهه فانصرف إلى أهله كئيبا حزينا لا يدري من أين أتي ولا من دهاه (١) ولا يدري ما دواء الملك فيما استنكر عليه فسهر لذلك عامة الليل ، ثم ذكر الرجل الذي زعم أنه يرتق الكلام فأرسل إليه فاتي به فقال له : إنك كنت ذكرت لي ذكرا من رتق الكلام فقال الرجل أجل فهل احتجت إلى شئ من ذلك؟ فقال الوزير : نعم اخبرك أني صحبت هذا الملك قبل ملكه ومنذ صار ملكا فلم أستنكره فيما بيني وبينه قط لما يعرفه من نصيحتي وشفقتي وإيثاري إياه على نفسي وعلى جميع الناس ، حتى إذا كان هذا اليوم استنكرته استنكارا شديدا لا أظن خيرا عنده بعده ، فقال له الراتق : هل لذلك سبب أو علة ، قال الوزير : نعم دعاني أمس وقال لي كذا وكذا فقلت له كذا وكذا ، فقال : من ههنا جاء الفتق وأنا أرتقه إن شاء الله.
إعلم أن الملك قد ظن أنك تحب أن ينجلي هو عن ملكه وتخلفه أنت فيه فإذا كان عند الصبح فاطرح عنك ثيابك وحليتك وألبس أوضع ما تجده من ذي النساك واشهره ثم احلق رأسك وامض على وجهك إلى باب الملك فإن الملك سيدعو بك ويسألك عن الذي صنعت فقل له : هذا الذي دعوتني إليه ولا
____________________
(١) في بعض النسخ «مادها ه».