الدنيا غير باقية لحيٍّ ، ولا حيَّ عليها بباقٍ ، فالأحرى أنْ يكون الهيكل الفاني قُربان خير خالد ، ومَهراً لحياة الأُمَّة.
أجلْ ، كانت جماعة الحسين (عليه السّلام) كؤوس رؤوسها مُفعمَة بشعور التضحية ، حتَّى إذا أذِنَ لهم بذلك ، لبسوا القلوب على الدروع ، وأقبلوا يتهافتون كالفراش على المُصباح ، لتضحية الأرواح ، فكلَّما أذِنَ حُجَّة الله لأحدهم ، وادعه وداع مَن لا يعود ، وهم يتطايرون مِن مُخيَّمه إلى خصومه تطايُر السهام ، لإنفاذ الغرض المُقدَّس بأراجيز بَليغة ، وحُجَج بالغةٍ ، مِن شأنها إزاحة الشبهات عن البعيد والقريب ، وعن الشاهد والغائب ، لكنَّ المُستمعين (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). قد غَشيت الأطماع أبصارهم ، وغَشت المخاوف بصائرهم ؛ فلا يُفكِّرون بسِوى دنانير ابن زياد وعصاه ، ومَن لا يهتمُّ إلاّ بالسيف والرغيف ؛ فلا نَصح تفيده ، ولا دليل يَحيده.
بلى ، إنَّما تُجدي العِظات في ظلِّ المطامع ، والحُجَّة تَهدي تحت بارقة السلاح ؛ لذلك لم يَجِد رُسل الحسين (عليه السّلام) مِن عِداهم الجواب ، إلاَّ على ألْسنة الأسنَّة والحِراب ، وقُتِّلوا تقتيلاً ، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). أحياءٌ بأرواحهم ، أحياءٌ بتاريخهم المَجيد ، ولهم لسان صدق في الآخرين ، وأُسوة بالأوَّلين.