أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعلَّمه ، وأسرَّ إليه مِن صَفوة مَعارفه ، وكان راجحَ العقل والفضل والأخلاق ، وكان مِن أعزِّ أقرانه على الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنَّ عليَّاً قام في سنوات اعتزاله الخِلافة بتربية غُلمَة في المدينة مِن أُسرته وأحبته.
لكنَّ الإمام لم يأخذ برأي مُحذِّرٍ ؛ إذ كان يَحسب نفسه في وادٍ والمُحذِّر في وادٍ ؛ فحسين الفِخار (ونفس أبيه بين جنبيه) لا يَسعه إلاّ أنْ يُلبِّي المُستغيث به ، ولا يُطيق الصبر على مَحْق الدين ، وسَحْق الموحِّدين ، ولو ذاق في جهاده الأمرَّين.
إنَّ غاية ما كان يراه الحسين (عليه السّلام) ، في تحذير المُحذِّرين ، أنَّ العراق لا يَفي بوَعده ، ولا يقوم على عهده ، فهبْ أنَّ ذلك كذلك ، فما ضَرَّ الإمام أنْ يُتمَِّ الحُجَّة عليهم ، قبل أنْ يُتمِّوا الحُجَّة عليه ، فإنْ ظفر بمَطلبه مِن إبادة الظالمين فبها ونِعْمَتْ ، وإلاَّ سار عنهم إلى الثغور القاصية ، حتَّى يفتح الله عليه بالحَقِّ وهو خير الفاتحين ، أو يأتيه الموت ؛ فيُلاقي ربَّه غير خاضع لأعدائه.
أمَّا رَحْلُ الحسين (عليه السّلام) وفِتيته ، فكانوا كلَّما ذكروا العراق ، تجلَّت لديهم ذكرياته الحُسنى ، وتذكَّروا حَنانه نحو الغريب وطلاوة الحديث الجَذَّاب ، والعواطف الرقيقة ، وذكروا عذوبة ماءه ، وطْيب هوائه ، عِلاوةَ ذِكرى مَن ألفوه بالكوفة ، مِمَّن تبودِلت بينه وبينهم الحقوق ، والنِّعم ، والعواطف ، والحسنات.
فكأنَّ هذه ، والتي سبقت ، خواطرَ مُهمَّة أدَّت إلى المسير نحو العراق ، وقَبول ما استدعاه وكيله الأمين (مسلم) في كتابه ؛ غير إنَّ الجميع واثقون مِن أنَّ الرحيل إلى العراق لو كان ، فإنَّما يكون بعد فريضة الحَجِّ ، وبعد الأضحى.