(عليه السّلام) مِن قوَّة تَمسُّكهم بالحَقِّ والصدق ، نبذوا الغَدر والمَكر ، حتَّى لدى الضرورة ، واختاروا النصر الآجل بقوَّة الحَقِّ على النصر العاجل بالخديعة ، شِنْشِنة فيهم معروفة عن أسلافهم ، ومَوروثة في أخلافهم ، كأنَّّهم مَخلوقون لإقامة حكومة الحَقِّ والفضيلة في قلوب العُرفاء الأصفياء ، وقد حَفِظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب.
وبالجملة : فقد دبَّر ابن مرجانه حيلة الفتك بهاني ، فأحضره لديه بحُجَّة مُداولة الرأي معه في الشؤون الداخليَّة ، غير إنَّ هانياً بعدما حضر لديه ، غَدر به ابن زياد ، وشَتم عرضه ، وهَشم أنفه ، وقطع رأسه.
وكان لهذه الحادثة دويٌّ في الرؤوس وفي النفوس ، واستولت بذلك دهشة على الجمهور ، أدّت إلى تفرُّق الناس مِن حول مسلم ، فأمسى وحيداً ، حائراً بنفسه ومَبيته ، وأشرف في طريقه على امرأة صالحة في كِِندة (١) جالسة على باب دارها ، فاستسقاها ماءً ، فجائته به وشرب ، ثمَّ وقف يُطيل النظر الى مَبدء الشارع تارةً ، وإلى مَنفذه أُخرى ، كأنَّه يتوقَّع مَن يتطلَّبه ، فتوسَّمت المرأة فيه غُربته وسألته.
فقال : نَعَم ، أنا مسلم بن عقيل ، خذلني هؤلاء.
فاستعظمت طوعة ذلك ، ودعته إلى بيتها ؛ لتُخفيه حتَّى الصباح ، وفرشت له في بيتٍ ، وعرضت عليه العِشاء ، فلم يتعشَ ، ولم يَكُن بأسرع مِن أنْ جاء ابنها ، وقد كان مع الغوغاء ، فأوهمه تَردُّد أُمِّه إلى البيت ، وقال لأُمِّه : والله لتُريبني كَثرة دخولك هذا البيت ، ثمَّ ألحّ عليها ، فأخذت عليه العهود ؛ كي لا يُفشي سِرَّها وسِرَّ مَندوب الحسين ،
__________________
(١) تُسمَّى طوعة ، وهي أُمّ ولد ، حازت شرف التاريخ ؛ إذ عرفت قيمة الفضيلة ، بينما قومها ضيَّعوا هذا الشرف الخالد وغرَّتهم المطامع.