واحتجّ اصحاب افلاطون على صحة ما ادعوه من ان شيئا ينبثّ ويخرج من البصر الى المبصر فيلاقيه ، بان المبصرات ، متى كانت متفاوتة بالمسافات ، ادركنا ما هو اقرب دون ما هو ابعد ، والعلة في ذلك ان الشيء الخارج من البصر يدرك بقوّته ما يقرب منه ، ثم لا يزال يضعف ، فيكون ادراكه اقلّ واقلّ (١) ، حتى تفنى قوّته ، فلا يدرك ما هو بعيد عنه جدا البتة (٢). ومما يؤكد هذه الدعوى ، انّا متى مددنا ابصارنا الى مسافة بعيدة ، واوقعناها على مبصر ينجلي بضوء نار قريبة منه ، ادركنا ذلك المبصر ، وان كانت المسافة التي بيننا وبينه مظلمة. فلو كان الامر على ما قاله ارسطو واصحابه ، لوجب ان يكون جميع المسافة التي بيننا وبين المبصر مضيئا ليحمل الالوان فتؤدي الى البصر. فلما وجدنا الجسم المتجلي من بعد مبصرا ، علمنا ان شيئا خرج من البصر وامتدّ ، وقطع الظلمة ، وبلغ المبصر الذي تجلى بضوء ما ادركه.
ولو كان كلا الفريقين ارخوا اعينهم قليلا ، وتوسطوا النظر وقصدوا الحق ، وهجروا طريق العصبية (٣) ، لعلموا ان الافلاطونيّين انما ارادوا بلفظ الخروج معنى غير معنى خروج الجسم من المكان.
__________________
(١) أقل وأقل : تعبير يقوم علي تكرار اللفظ للدلالة علي التوكيد والمبالغة وقد لجأ اليه الفارابي كثيراً في كتابته.
(٢) التبة : بداً ، مطلقاً ، بشكل قاطع.
(٣) يتهم الفارابي اصحاب ارسطو واصحاب افلاطون بالتعصب وهذا يعني انه لا يعتبر نفسه لا من اصحاب افلاطون ولا من اصحاب ارسطو. انه من اصحاب الاثنين معاً أي من انصار الافالطونية الجديدة التيت بدأت مع افلوطين.