فاقول : ان الذي دعى هؤلاء الى هذا الظن القبيح المستنكر بارسطوطاليس الحكيم (١) ، هو ما قاله في كتاب «طوبيقا» انه قد توجد قضية واحدة بعينها يمكن ان يؤتى على كلا طرفيها قياس من مقدمات ذائعة ، مثال ذلك : هذا العالم قديم ام ليس بقديم. وقد وجب على هؤلاء المختلفين ، اما اولا ، فبأنّ ما يؤتى به على سبيل المثال لا يجري مجرى الاعتقاد؛ وايضا فان غرض ارسطو في كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان امر العالم ، لكن غرضه امر القياسات المركبة من المقدمات الذائعة. وكان قد وجد اهل زمانه يتناظرون في امر العالم : هل هو قديم ام محدث ، كما كانوا يتناظرون في اللذة ، هل هي خير ام شرّ ، وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كل مسألة بقياسات ذائعة. وقد بيّن ارسطو في ذلك الكتاب وفي غيره من كتبه ، ان المقدّمة المشهورة لا يراعي فيها الصدق والكذب ، لان المشهور بما كان كاذبا ، ولا يطرح في الجدل لكذبه ، وربما كان صادقا ، فيستعمل لشهرته في الجدل ، ولصدقه في البرهان. فظاهر انه لا يمكن ان ينسب اليه الاعتقاد بان العالم قديم بهذا المثال الذي اتي به في هذا الكتاب.
ومما دعاهم الى ذلك الظن ايضا ، ما يذكره في كتاب «السماء والعالم» ان الكل ليس له بدء زماني ، فيظنون عند ذلك انه يقول بقدم العالم ،
__________________
(١) ينكر الفارابي ان يكون قد قال بقدم العالم. وهذا دليل علي أنه يجنح الي القول بحدوث العالم. بيد أنه في كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» يقول بقدم العالم.