فنرجع الآن الى حيث فارقناه؛ فنقول : لما كان اللّه تعالى حيّا موجدا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب ان يكون عنده صور ما يريد ايجاده في ذاته ، جلّ اللّه من اشتباه.
وايضا ، فان ذاته ، لما كانت باقية ، لا يجوز عليه التبدّل والتغيّر. فما هو بحيّزه ايضا كذلك باق غير داثر ولا متغير. ولو لم يكن للموجودات صور وآثار في ذات الموجد (١) الحي المريد ، فما الذي كان يوجده؟ وعلى اي مثال ينحو بما يفعله ويبدعه؟ أما علمت انّ من نفى هذا المعنى عن الفاعل الحي المريد ، لزمه ان يقول بان ما يوجده انما يوجده جزافا وتنحّسا وعلى غير قصد؛ ولا ينحو نحو غرض مقصود بارادته. وهذا من اشنع الشناعات.
فعلى هذا المعنى ينبغي ان تعرف وتصوّر اقاويل أولئك الحكماء فيما اثبتوه من الصور الالهية؛ لا على انها اشباح قائمة في اماكن اخر خارجة عن هذا العالم. فانها متى تصوّرت على هذا السبيل ، يلزم القول بوجود عوالم غير متناهية ، كلها كأمثال هذا العالم. وقد بيّن الحكيم ارسطو ما يلزم القائلين بوجود العوالم الكثيرة في كتبه في «الطبيعيات» (٢). وشرح المفسّرون اقاويله بغاية الايضاح. وينبغي ان
__________________
(١) هذا تفسير خاطيء لمعني المثل عند افلاطون. انها بنظر الفارابي صور في ذات الله علي مثالها خلق الموجودات الحسية. ولكنها في الواقع تشكل عالماً قائماً بذاته كما يستفاد من كتب افلاطون.
(٢) هنا يشير الفارابي الي النقد الذي وجهه أرسطو إلي نظرية المثل. وقد انتقدها مراراً ليس في الكتب الطبيعية كما يقول الفارابي بل في كتاب الاخلاق الي نيقوماخس.