تتدبّر هذا الطريق الذي ذكرناه مرارا كثيرة في الاقاويل الالهية؛ فانه عظيم النفع وعليه المعوّل في جميع ذلك ، وفي اهماله الضرر الشديد. وان تعلم ، مع ذلك ، ان الضرورة تدعو الى اطلاق الالفاظ (١) الطبعية والمنطقية المتواطئة على تلك المعاني اللطيفة الشريفة ، العالية عن جميع الاوصاف ، المتباينة عن جميع الامور الكيانية الموجودة بالوجود الطبيعي. فانه ان قصد لاختراع الفاظ اخر واستئناف وضع لغات ، سوى ما هي مستعملة ، لما كان يوجد السبيل الى الفاظه ، ويتصوّر منها غير ما باشرته الحواسّ. فلما كانت الضرورة تمنع وتحول بيننا وبين ذلك ، اقتصرنا على ما يوجد من الالفاظ ، واوجبنا على انفسنا الاخطار بالبال ان المعاني الالهية التي يعبر عنها بهذه الالفاظ ، هي بنوع اشرف وعلى غير ما نتخيّله ونتصوّره.
ومما يجري هذا المجرى ، اقاويل افلاطون في كتاب «طيماوس» من كتبه في امر النفس والعقل؛ وان لكل واحد منهما عالما سوى عالم الآخر ، وان تلك العوالم متتالية ، بعضها اعلى وبعضها اسفل. وسائر ما قال مما اشبه ذلك. ومن الواجب ان نتصور منها شبه ما ذكرناه ، انه انما يريد بعوالم العقل حيّزه وكذلك بعوالم النفس. لا ان للعقل مكانا وللنفس مكانا وللباري تعالى مكانا ، بعضها اعلى وبعضها اسفل ، كما يكون للاجسام. فان ذلك مما يستنكره المبتدئون بالتفلسف ، فكيف المرتاضون بها؟ وانما يريد بالاعلى والاسفل الفضيلة والشرف ، لا
__________________
(١) يفزع الفارابي الي اللغة كلما احرجه الموقف.