(كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي وقلنا لهم كلوا مما رزقناكم من المنّ والسلوى واشربوا مما فجرنا لكم من الماء من الحجر الصّلد ، وقد عبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى حتى كأنهم حاضرون الآن والخطاب موجه إليهم.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه ، وقد جاء هذا النهى عقب الإنعام عليهم بطيّب المأكل والمشرب خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما ، ولئلا يقابلوا النعم بالكفران.
وقد أراد موسى أن يجتثّ أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه ، ويربأبهم عن الذل الذي ألفته نفوسهم بتقادم العهد واستعباد المصريين إياهم ، ويعوّدهم العزة والشمم والإباء بعبادة الله وحده.
وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة ، وكلما عرض لهم شىء من مشاقّ السفر برموا بموسى وتحسروا على فراق مصر وتمنّوا الرجوع إليها ، واستبطئوا وعد الله فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله ، وصنعوا عجلا وعبدوه.
وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها ، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين ، كما قصه الله علينا : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية ، ويخرج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق ، فتاهوا هذه المدة ، وقضى الله أمرا كان مفعولا.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ