فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى.
وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير فى طريق الخير ، وهى التي أمرنا الله بطلبها فى قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ المراد ـ دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع فى الخطأ والضلال.
وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه ، ومن ثمّ نفاها عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وأثبتها لنفسه فى قوله :
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).
أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق ، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح ، فهى مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها ، ومن ثم أثبتها للنبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
هذا ـ والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة فى الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع دينى كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع ـ وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسى ، إذ كل منهما موصل إلى غاية ، فهذا سير معنوى يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان ، وذاك سير حسىّ يصل به إلى غاية أخرى.
وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه ، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد فى معرفة أحكام الشريعة ، ونكلف أنفسنا الجري على سننها ، لنحصل على خيرى الدنيا والآخرة.
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة ، وقد أجملهم هنا وفصلهم فى مواضع عدة من