(وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل شاء أن يجعلكم نوعا ذا عقل وفكر واستعداد للفهم والعلم ، يرتقى فى أطوار الحياة بالتدريج ويخضع لسنة الارتقاء ، فلا تصلح له شريعة واحدة فى كل أطواره وفى سائر جماعاته ، فكانت الشرائع فى أطوار الطفولة من نوع يغلب عليه المادة ، وفى طور التمييز تغلب عليه العواطف والوجدانات النفسية ، وفى طور الرشد واستقلال العقل ختمت الشرائع والمناهج بالدين المحمدي المبنى على فتح باب الاجتهاد الفكرى وجعل أمره شورى فى القضاء والسياسة وأصول الاجتماع بين أولى العلم والرأى.
والخلاصة ـ إنه سبحانه عاملنا معاملة المختبر لاستعدادنا فيما آتانا من المناهج والشرائع لتظهر حكمته فى تمييز نوعنا عن غيره من الأنواع التي تدب على وجه البسيطة ، بأن جمع لنا بين الحيوانية والملكية.
وإنك لو نظرت إلى سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة ، وليس لأهلها فيها رأى ولا اجتهاد إذ هى نزلت لقوم ألفوا الذل والاستعباد ، فوجب أخذهم بالشدة والصرامة ، وترى الشريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبين عليهم من أهل السلطة والحكم ويقبلوا كل ما يسامون به من ذل وخسف ويجعلوا عنايتهم بالأمور الروحية وتربية الوجدانات النفسية ، وترى الديانة الإسلامية قائمة على أساس الاستقلال والعقل جامعة بين مصالح الروح والجسد «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ولا يليق ذلك إلا بأمة بلغت سن الرشد العقلي والارتقاء الفكرى ، ومن ثم كانت أحكامها الدنيوية قليلة فى كتابها ، وفوض الأمر فيها إلى الاجتهاد ، إذ الراشد يفوض أمره إلى نفسه ، ومن ثم صارت صالحة لكل زمان ومكان ، إذ مدارها على الاجتهاد وطاعة أولى الأمر ، فمنع الاجتهاد فيها يبطل مزيتها ويجعلها لا تصلح لجميع الأزمان ولا لجميع الأمكنة ، إذ أنك تعلم أن للزمان والمكان والأحوال من التشريع ما يوافقه ، انظر إلى الإمام الشافعي تجد أنه حين كان بالعراق وضع أسسا للتشريع والأحكام (المذهب القديم) فلما انتقل إلى مصر ورأى عادات أهلها وأطوارهم