(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقّت له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه من وراء حجاب بغير واسطة ملك استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتى الكلام والرؤية فقال : رب أرنى ذاتك المقدسة واجعل لى من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك وكمال المعرفة بك.
(قالَ لَنْ تَرانِي) أي قال له : إنك لا ترانى الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلىّ فى الدنيا.
ثم أتى بما هو كالعلة لذلك (ليخفف عن موسى شدة وطأة الرد بإعلامه ما لم يكن يعلم من سننه) وهو أن شيئا فى الكون لا يقوى على رؤيته كما جاء فى حديث أبى موسى الذي رواه مسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه» فقال :
(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا فى مكانه فسوف ترانى إذ هو مشارك لك فى مادة هذا العالم الفاني ، وإذا كان الجبل فى قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر لأن مادته غير مستعدة لقوة تجلى خالقه وخالق كل شىء ـ فاعلم أنك لن ترانى أيضا وأنت مشارك له فى كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية فى ضعف استعدادها وقبولها للفناء.
وروى عن ابن عباس أنه قال : حين قال موسى لربه تبارك وتعالى : «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» قال له يا موسى إنك «لَنْ تَرانِي» يقول : ليس ترانى ، لا يكون ذلك أبدا ، يا موسى إنه لن يرانى أحد فيحيا ، قال موسى : رب أن أراك ثم أموت أحبّ إلىّ من ألا أراك ثم أحيا ، فقال الله يا موسى انظر إلى الجبل الطويل العظيم الشديد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهدّ لبعض ما يرى من عظمى «فَسَوْفَ تَرانِي» أنت لضعفك وذلتك ، وإن الجبل تضعضع وانهدّ بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل.